العراقيون وحكاية الهواء الفاسد في سمائهم

العراقيون يحتارون في ترتيب الحلول لأزماتهم التي لا تنتهي وكأنهم يعيشون زمنا رديئا يخبرهم بحقيقة مفادها أن خروجهم من حفرة سيوقعهم في حفرة أعمق، وكأنها لعنة تطاردهم حتى في الهواء.
الخميس 2024/10/17
كارثة بيئية أم إبادة جماعية

نشر موقع IQ Air المتخصص في مراقبة جودة الهواء العالمية تقريرا تصدرت فيه العاصمة العراقية بغداد قائمة المدن الأكثر تلوثا في العالم، حيث تجاوزت مدنا مثل لاهور في باكستان والقاهرة في مصر ودلهي في الهند التي تشتهر بارتفاع نسب التلوث فيها. الموقع يحدد نسب التلوث في بغداد بثلاثة أضعاف دلهي وخمسة أضعاف القاهرة، وهو ما يشير إلى وجود كارثة بيئية تقترب من الإبادة الجماعية لحياة العراقيين كبارا وصغارا، الذين يصبحون أكثر عرضة لأمراض التلوث مثل أمراض الجهاز التنفسي وأنواع السرطانات. حتى أن أحدهم بشّرنا بأن العين قد تصاب بمضاعفات ذلك الهواء الملوث.

يحتار العراقيون في ترتيب الحلول لأزماتهم التي لا تنتهي، وكأنهم يعيشون زمنا رديئا يخبرهم بحقيقة مفادها أن خروجهم من هذه الحفرة سيوقعهم في حفرة أعمق، وكأنها لعنة تطاردهم حتى في الهواء الذي يستنشقونه. كنا نقرأ عبارة للراحل نجيب محفوظ يقول فيها “إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟”، إلى أن وجدنا ضالتنا في الفساد الذي يُطبق على أنفاسنا في الهواء الذي نتنفسه.

تسارعت الجهات الحكومية، كل منها تُبرئ نفسها وتتهم الأخرى بارتكاب الجريمة. منهم من قال إن السبب يكمن في مناطق الطمر الصحي القريبة من العاصمة والتي تحرق نفاياتها مسببة تلك الروائح الكريهة، وآخرون وجّهوا أصابع الاتهام إلى معامل الطابوق وكور صهر النحاس التي يبلغ عددها أكثر من 250 معملاً تنتشر في ضواحي بغداد، ومسببات أخرى تثبت العجز والاعتراف بالفشل الحكومي في معالجة أزمة تهدد حياة ملايين العراقيين دون اكتراث من المسؤولين، رغم أن زمن الأزمة يمتد لسنوات عديدة.

◄ العراقيون يعيشون أسوأ زمن يصل بهم إلى الهواء الفاسد الذي يستنشقونه بعد أن اختلط بأنواع الفساد الذي يحيط بهم. مثل رائحة البيض الفاسد، هكذا هي أجواء مدينة بغداد

أخيرا، يبدو أن الجميع اتفقوا على المسبب الذي ينطبق عليه شعار “رُبَّ ضارة نافعة”، عزوا سبب ارتفاع نسبة التلوث في العاصمة إلى مصفى الدورة في بغداد وبجانبه محطة كهرباء الدورة. قبل زمن ليس ببعيد أُثير موضوع نقل مصفى الدورة الذي تأسس عام 1953 ولا يزال يستعمل تقنيات قديمة اندثرت في زمن التكنولوجيا، ومحطة الدورة للكهرباء التي تعمل بالنفط الأسود، حين طالبت بعض الأصوات من الأحزاب بضرورة نقلهما إلى خارج حدود العاصمة. لكن يبدو أن تلك المطالبات تقف وراءها دوافع مشبوهة لاستثمار الأراضي التي تقف عليها المصافي، فهي أرض تطل على نهر دجلة وقريبة من المنطقة الخضراء، يضاف إليها الموقع المهم الذي تتمتع به تلك الأراضي التي يتوقع لها اشتداد المنافسة بين المافيات الاقتصادية للأحزاب في حال انتقال المصفى.

هل هناك نية لإبادة جماعية للعراقيين قد تحدث لهم من خلال الهواء الفاسد الذي يستنشقونه؟ لا أحد يعلم، لكن المؤكد أن الإجراءات الحكومية لا ترتقي إلى مستوى الأزمة التي تتصاعد يومياً. لا حلول تلوح في الأفق، مجرد لجان تشكلها الدوائر المعنية لذر الرماد في العيون وسط تعتيم إعلامي عن أعداد الداخلين إلى المستشفيات جراء الاختناق من ذلك الدخان السام.

تقف الحلول الحكومية عاجزة أمام كارثة تسمم أهالي بغداد، أو هكذا يُراد للأزمة أن تستمر دون حلول حتى تنتهي مع بدء أزمة أخرى أو مشكلة ينشغل بها الرأي العام. ففي العراق دائما ما يُراد إشغال الشعب بأمور تنتهي عندما تبدأ أزمات جديدة وتبدأ معها رحلة المعاناة، هكذا هو الواقع العراقي.

يعيش العراقيون أسوأ زمن يصل بهم إلى الهواء الفاسد الذي يستنشقونه بعد أن اختلط بأنواع الفساد الذي يحيط بهم. مثل رائحة البيض الفاسد، هكذا هي أجواء مدينة بغداد التي أصبحت مغطاة بركم من الدخان في أجوائها. تُرى هل أصبحت بغداد مدينة غير صالحة للعيش؟ أين المفر؟

8