العراقيون وحروبهم الدائمة

العراقيون ظنوا أن خلاصهم من نظام دكتاتوري سيعيد إلى الحياة بهجتها وسترحل معه عسكرة المجتمع لكن الحرب التي كانت على الحدود انتقلت إلى داخل المدن واستقرت داخل منازل العراقيين.
الاثنين 2024/09/09
العراقيون يدفعون ثمن حروب لم يختاروها

في ثمانينات القرن الماضي دقّت طبول الحرب بين العراق وإيران. اندلعت في شهر أيلول – سبتمبر 1980، أي بعد أقل من عامين من تولي صدام حسين منصب رئاسة الجمهورية، والذي يُقال إن مؤامرة جعلت سلفه أحمد حسن البكر يتنحى لخلفه.

في سنوات الحرب الثماني كانت مشاهد طوابير السيارات التي تحمل توابيت ملفوفة بالعلم العراقي أمراً مألوفاً في شوارع ومحافظات العراق. أما مشاهد الخوف والرعب، فكان يمكن أن تراها بوضوح على وجوه العراقيين عندما يطرق أبواب منازلهم رجل يرتدي الزي الزيتوني لاستدعاء أحد أفراد العائلة لتأدية واجب الجيش الشعبي آنذاك.

كانت دقات القلوب تتسارع وتتسابق والرعب يعلو ملامح الوجوه وهي تتسمّر أمام شاشات التلفاز لتسمع بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة وهي تعلن أفواج الصاعدين إلى السماء.

◄ العراقيون ومنذ عشرات السنين لا يزالون يدفعون أثمان حروب لم يختاروها أو يشعلوها، وكل ذنبهم أنهم عراقيون، مشاريع حاضرة أو مؤجلة لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل

كان الموت ولا يزال حديثاً للعراقيين، يعيش معهم في كل شيء، حيث تراهم يذكرونه في كلامهم مثل الحبيب الذي يغازل حبيبته بالقول “آني أموت عليج”، وذلك الجائع الذي يقول “ميّت من الجوع”، أو حديث الصيف اللاهب في العراق المعتاد “آني ميّت من الحر”.

خسر العراق في حرب البوابة الشرقية مع إيران أكثر من مليون شاب، وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمعوقين، وخسارة مليارات الدولارات على سلاح الحرب. والأهم، تدمير شخصية الفرد العراقي وهو يشاهد في التلفاز صوراً من المعركة لجثث متفحمة ومتناثرة لجنود تقطّعت أوصالهم، وصوراً مفزعة للموت، وكل الخوف والخشية أن يطرق الباب من يخبرهم أن من بين القتلى ابنا أو أخا أو والدا في العائلة، إلى درجة أن مستوى الخوف ارتفع عند العراقيين وباتوا يخافون القادم من الأيام.

انتهت حرب العراق وإيران بسنواتها الثماني العجاف في 8 آب – أغسطس 1988. حينها فرح العراقيون ببصيص الأمل في الحياة ووقف إطلاق النار، فقام الشعب برمي الماء على بعضه البعض في شوارع بغداد ابتهاجاً بالمناسبة التي استمرت احتفالاتها لأيام.

لم تكد تمر عدة شهور من استراحة العقول حتى تفاجأ الشعب بإعلان صدام دخول قواته إلى الكويت في فجر الثاني من أغسطس 1990، في فجر يوم حزين، ليتم استدعاء الاحتياط ومن تنفس حرية التسريح من الجيش ولو لأشهر قليلة.

كانت حربا عبثية استمرت لأسابيع طويلة، صنعت من العراقيين حطباً لعبثية حاكم أراد أن يدخل التاريخ ليجعل من دولة عربية محافظة رقم 19 تضاف إلى محافظات العراق الـ18.

هنا لم تسكت الولايات المتحدة التي دافعت عن مصالحها وأصدقائها، فجيّشت الجيوش وهيأت طائرات الشبح ودباباتها المتطورة، فكانت مناسبة لسحق الجيش العراقي وتدميره وإلحاق أكبر هزيمة بقواته في عملية سُميت “عاصفة الصحراء”.

أصبح طريق العودة من الكويت إلى البصرة مقبرة للجنود العراقيين وأسلحتهم، تبعها فرض حصار اقتصادي على العراقيين دفعوا أثمانه غالياً من أقواتهم وأرواحهم، حين كانت قوافل الموت تسير بتوابيت أطفال خُدّج في شوارع بغداد وأرواحهم تصعد إلى السماء شاكية إلى بارئها ظلم العباد، كانت السلطة تتعذر بانعدام الكهرباء في المستشفيات.

◄ العراق خسر في حرب البوابة الشرقية مع إيران أكثر من مليون شاب، وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمعوقين، وخسارة مليارات الدولارات على سلاح الحرب. والأهم، تدمير شخصية الفرد العراقي

سنوات الحصار القاسية أنتجت جوعاً وفقراً، حين كان الشعب يئن من الحرمان، ونفط يخرج من العراق بعنوان “النفط مقابل الغذاء” الذي فرضته الولايات المتحدة على الشعب العراقي حصراً وليس على نظامه المتنعّم بالخيرات.

استمر الحصار والجوع والموت حتى عام 2003، حين دخلت القوات الأميركية بغداد، محتلة، وأعلن جورج بوش الابن عن إنهاء العمليات العسكرية في العراق من إحدى البوارج الحربية بالقول “افتحوا الأبواب والشبابيك، لقد حان موعد الديمقراطية”.

فرح العراقيون وابتهجوا بهذا النصر المزعوم حتى شاع بينهم أن الأميركان سيقومون بتوزيع الدولارات على الشعب الجائع إضافة إلى أكثر من 40 مادة غذائية تعجز الأيادي عن حملها أو التصرف بها. ظن العراقيون أن خلاصهم من نظام دكتاتوري سيعيد إلى الحياة بهجتها وسترحل معه عسكرة المجتمع، لكن الحرب التي كانت على الحدود انتقلت إلى داخل المدن واستقرت داخل منازل العراقيين، حين واجه المواطن البسيط حروب المفخخات والإرهاب والأجساد المستعدة لأن تتناثر من أجل أن تقتل أكبر عدد من البسطاء والباعة في أي شارع أو سوق.

خسر العراقيون منذ دخول الأميركان بغداد عام 2003 ما يعادل خسائرهم في الحرب العراقية – الإيرانية، وعلى ما يبدو هي ضريبة الحياة على هذه الأرض المتعطشة لدمائهم.

العراقيون ومنذ عشرات السنين لا يزالون يدفعون أثمان حروب لم يختاروها أو يشعلوها، وكل ذنبهم أنهم عراقيون، مشاريع حاضرة أو مؤجلة لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

 

اقرأ أيضا:

8