العبادي وسنّة العراق.. من يشتري الآخر

من خلال تأمّل الخارطة الانتخابية في العراق وشراسة التنافس السياسي الذي تحوّل من صراع بين المكونات إلى نزاع محتدم بين القوى داخل كل مكون إثني على انتزاع تفويض تمثيل مصالحه في نظام المحاصصة يمكن القول إنه ليس لرئيس الوزراء حيدر العبادي اليوم سوى السنّة وليس للسنّة سوى العبادي.
لقد التقت مصالح الطرفين بشكل فريد يمكن أن يكون فرصة مهمة لتغيير المعادلة السياسية في البلاد إذا استثمرها الطرفان بذكاء وسعة أفق. فإما أن يشتري العبادي ولاء السنّة وإما أن يشتروا هم وفاءه. إما أن يتقرّب إليهم بخطوات انفتاح حقيقية وعميقة تضع حدا لدوامة استضعافهم والتمييز ضدهم فيحصد تأييدهم في الانتخابات، وإما أن يبادروا ويجازفوا هم كجمهور انتخابي بالتقرّب إليه وأن يمنحوه ثقتهم في الانتخابات فيصوتوا بكثافة لمرشحي ائتلافه في محافظاتهم، ثم ينتظروا منه الوفاء بمطلبيتهم السياسية والحقوقية بعدها؛ ذلك أن ممثليهم وحاملي هذه المطلبية سيكونون جزءا من ائتلافه وليسوا خصوما أو معارضة من الائتلافات الأخرى.
بغير أحد هذين المسارين فإن ائتلاف العبادي سيكون مضطرا لـ”استجداء” الصوت الواحد في البيئة الشيعية كي يتفوق على منافسيه الشيعة الذين يمتلكون المال والسلاح والدعم الإيراني وهالة “الدفاع عن المذهب”، وفي المقابل سيستمر ممثلو السنّة في ممارسة “التسوّل السياسي” على أبواب الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات كما اعتادوا على ذلك منذ 2003، وستبقى مناطقهم موصومة بأنها “متمردة” أو “معادية” للدولة.
كلا الطرفين، العبادي والجمهور السني، وضعه ضعيف وهشّ ويعاني الانكشاف السياسي، فالعبادي يتلمّس طريقه كزعيم طموح يحاصره منافسون أقوياء في بيئته الشيعية الأصلية، وهو بحاجة إلى قاعدة جماهيرية تمنحه زخما شعبيا وسياسيا.
والسنّة، في المقابل، جمهور مصدوم بعد تجربة داعش القاسية وسنوات الاستضعاف التي سبقتها، ويبحث عن زعامة تأخذ بيده بعد تراجع ثقته بالنخب التي مثّلته سابقا؛ ولكن بإمكان العبادي والسنّة معا أن يحوّلا هذا الضعف إلى قوة لهما، وللعراق.
ولكن تحقق هذا التحالف بين العبادي والمجتمعات السنية يظل مشروطا بقدرة رئيس الوزراء على إيصال رسائل واضحة وتعهدات صريحة وقرارات عملية تمهيدية هادفة لبناء الثقة مع تلك المجتمعات قبل حلول يوم الانتخابات، وعلى أن يثبت لهم أنه مختلف عن غيره من القيادات الشيعية التي باعتهم، وهم الشراكة والإنصاف منذ 2003 وإلى اليوم.
العبادي يدرك أهمية الانفتاح على السنّة لكن يفوته أن الانفتاح المطلوب منه ليس مجرد تكتيك انتخابي بالاعتماد على “ما كان” من تخليص هذه المناطق من داعش في عهد حكومته، إذ يجب أن يتحول هذا الانفتاح إلى استراتيجية وطنية بالاعتماد على “ما سيكون” مستقبلا إذا ما فاز العبادي بولاية جديدة، وهو تفكيك المظلومية السنية وتجفيف منابع التمييز، وإنهاء السياسات الطائفية وتكريس العدالة والمساواة في إدارة الدولة.
مازال العبادي يعتقد أن الانفتاح على السنّة يقضم من رصيده الشيعي، كما أنه يتجنّب التماهي الصريح مع الحلم المذهبي للشيعة خشية أن يضرّ ذلك بالصورة الوطنية التي يطمح إلى تسويقها عن نفسه ومشروعه السياسي. ولذلك هو يتبع “سياسة مزدوجة” تجمع بين محاباة الشيعة ضمنيا ومجاملة السنّة ظاهريا دون أن يكون قادرا على تحقيق تأثير عميق وحاسم في أي من البيئتين.
في البيئة الشيعية ينافسه الحشد الشعبي والمالكي العازفان على وتر المظلومية الشيعية، وفي البيئة السنية تنافسه القوى التقليدية السنية التي تعزف على وتر المظلومية السنية. والعبادي إلى حدّ هذه اللحظة لم يستطع أن يكون واضحا في إرسال رسائل للبيئتين بأن ولاية جديدة له ستضمن تفكيك المظلوميتين بشكل جذري وحاسم وإقناع المكونين، السني والشيعي، بمشروعه وجمعهما حول فكرة “الدولة العادلة” المنصفة للجميع.
يحاول العبادي أن يزاوج في مشروعه بين مفهومي “الأغلبية الشيعية” و”الشراكة الوطنية”، وهي مزاوجة تعيد إنتاج أزمة النظام السياسي العراقي ولا تعالجها، وفي خضم هذا الصراع الداخلي الذي يعيشه العبادي يفوته أن انفتاحه على السنّة إذا أدير بذكاء ومصداقية وأفق وطني وضمن مشروع متكامل، قبل الانتخابات ومن دون تضييع للوقت، سيجعله يكسب الشيعة أيضا لأنهم سيجدون فيه قائدا وطنيا حقيقيا وجريئا، وسيتمكن من صناعة “أغلبية وطنية” قادرة على تعزيز وضعه في الانتخابات وموقفه التفاوضي بعدها.
أمام العبادي طريقان؛ إما أن يتنافس داخل البيئة الشيعية مع قوائم شيعية حيث الصراع الضروس على السلطة؛ وبذلك سيكون كما أسلفنا في حاجة إلى الصوت الواحد لمجاراة منافسيه، وسيبقى وضعه قلقا حتى لو فاز ائتلافه بعدد كبير نسبيا من أصوات الشيعة والسنّة، وهذا متوقع، ولكنه سيظل بعد الانتخابات تحت رحمة خصومه داخل البيت الشيعي لأنه يحتاج إلى التحالف معهم للفوز بكرسي رئيس الوزراء مجددا وتشكيل الحكومة.
وإما انتهاج الطريق الثاني بأن يأخذ خطوات براغماتية جريئة باتجاه السنّة لرد الاعتبار لهذا المكون قبل الانتخابات، وتضميد جرح الكرامة لدى المجتمعات السنية المستضعفة منذ 2003، فمن خلال خطوات رمزية محمّلة برسائل مكثفة وبليغة للمكون السني وللرأي العام الوطني والدولي بإمكان العبادي أن يقلب المعادلة القائمة ويتفوق على منافسيه في البيئة السنية؛ في نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى وبغداد، ولا سيّما أنه أساسا يتمتع بقبول سني ولكنه يحتاج إلى حسم وتبديد للحيرة والارتباك اللذين يعيشهما الناخب السني.
ويحتاج العبادي أن يبعث للمجتمعات السنية رسالة بأن مرشحيه فيها ليسوا مجرد “دمى”، بل شركاء حقيقيون وأنهم مؤهلون ليحلّوا محل النخب السنية التقليدية، حيث يواجه ائتلاف العبادي منافسة قوية في المناطق السنية من الزعماء السنّة التقليديين مثل السياسي الموصلي أسامة النجيفي، نائب رئيس الجمهورية، وحليفه الأنباري خميس الخنجر، إذ يتمتع الرجلان بقدرات مالية لا يستهان بها وعمق مناطقي في نينوى والأنبار؛ ولكن ثمة مصلحة حقيقية للسنّة في التحول الذي يريد العبادي إجراءه في مفهوم “الهيمنة الشيعية” على العراق باتجاه تصوّر لهذه الهيمنة أقل عدوانية وثأرية وأحادية، وأكثر انفتاحا على المكونات العراقية في الداخل، وأكثر نأيا بشيعة العراق وخياراتهم عن السياسة الإيرانية، وأكثر انفتاحا على خيارات عربية وإقليمية ودولية أخرى في علاقات العراق الخارجية.
بقي أقل من أسبوعين على موعد الانتخابات، وهي فترة كافية للعبادي لإثبات حسن النية للمجتمعات السنية والشيعية على السواء عبر وضع اليد على الأزمات الحقيقية للمجتمع، فهو يعرف طبيعة المظلومية المذهبية للسنّة الذين يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، والمظلومية الطبقية للشيعة الذين يشعرون أن ثمة طبقة عليا متنفذة منهم تستأثر بالسلطة والثروة وتستخدم الشيعة لصون هيمنتها.
وهذا يحتاج إلى خطاب مصارحة مع الشيعة ومصالحة مع السنّة يتجاوز اللغة الإنشائية التي يستخدمها حاليا. بهذه الطريقة وحدها يستطيع العبادي أن يحقق نتائج في الانتخابات تعزز وضعه السياسي وتجعله يفرض نفسه على القوى الشيعية والجانب الإيراني ليحظى بولاية جديدة.