العالم تحت مطرقة قرار الحرب أو السلام
عندما نمزق صورا قديمة تعـود إلى من كنا نحيا معهم وتقاسمنا وإياهم تلـك اللحظة والأيام وربما الأعوام، إنما نمزق بعض حياتنا بالحذف الجزئي، لأن الذاكرة تظـل تحتفـظ بنسخـة منها نجتهـد في إزالتها أو رفعها إلى الرفوف العالية، لعل غبـار النسيـان يداهمهـا إلى الأبـد دون رجعة.
الموصل ليست صورة من الحرب العالمية الأولى، إنها مدينة تم تمزيقها بإرادات متناقضة لكنها أدت الغرض في اقتطاعها من هذا العالم الملون، لقد أزالتها وتركتها إلى ديكورات لأفلام الحرب وموسيقى نفوس أهلها الضائعة والحائرة كحركة أقدامهم المشتتة وسط ركام وأسئلة بلا حدود لزمن قاتم حالك الظلام.
هل أراد النظام الإيراني تمزيق صورة الموصل الجميلة الراقية والشجاعة كمحاولة منه لاقتطاع شريط هزيمته وتجرعه السم في حرب الثماني سنوات ضد العراق؟
الموصل نموذج للمدن العربية المدمرة، درس واحد معاد نتعلم منه ما ينتظرنا في الحصص التالية ودون فرصة لالتقاط أنفاس أو استراحة.
الحروب دائما كانت تتطلب سببا مباشرا لاندلاعها، سبب يسحب خلفه سيلا من الغثيان والاحتقان.
الحرب العالمية الأولى هل كانت انتقاما لاغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند في سراييفو؟
الحرب تذرعت بالاغتيال لأنه الذروة والصيد السهل على شباك تذاكر المشاعر الوطنية، التي تخفي وراءها أزمات ونزعات تحرر وارتباك أسواق واقتصاد ومناوشات حدود. والعالم لا يتذكر سوى طالب صربي أطلق الرصاص يدعى غافريلو.
تنظيم داعش هو غافريلو الذي كان سبباً في تدمير الموصل، ولولا داعش لما كانت هناك حرب على الإرهاب في الشرق الأوسط والعالم، ولولا غافريلو لما حدثت الحرب العالمية الأولى ونتائجها على أوروبا تحديداً، ولما تعرفنا على سايكس ولا على بيكو اللذين أسرفا في تقطيع أوصال أمتنا العربية برصاص أقلامهم على خرائط في صالة ما بعد الحرب.
كذلك الحرب العالمية الثانية، الحروب تحاكم بطريقة إلقاء القبض على متهم لإثبـات براءته أو إدانته بذنبه وبأدلـة الشهـود والقـرائن والتـداعيات لفعل الجريمة.
الجرائم مع سبق الإصرار والترصد تصدر في حق مرتكبيها أشدّ العقوبات حتى تصل إلى الإعدام، ليست كحوادث المرور مثلاً التي قد تؤدي إلى القتل أيضاً لكن عقوباتها مخففة لأنها بلا تاريخ في الإعداد والترقب والإثارة والاشتباكات الصغيرة، ولا علاقة لها بالإهانة والتحقير والإذلال حيث تتحفز كلها إلى رد الاعتبار والتنفيذ بتعمد ارتكاب الجريمة.
تنظيم داعش هو غافريلو الذي كان سبباً في تدمير الموصل، ولولا داعش لما كانت هناك حرب على الإرهاب في الشرق الأوسط والعالم
من يراقب ويتابع شهيق وزفير السياسة العالمية يتداعى إلى ذهنه منفاخ الحداد الذي يزيد النار اشتعالا.
ومن يريد أن يقرأ الأحداث جيداً عليه أن يبتعد عن مركز الأزمة التي تحيط به، كما يجري معنا ونحن نتعايش مع يوميات الإرهاب الإيراني والتنظيمات المتشددة والعنف متعدد المصادر والقوات الأجنبية وجيش من المنتفعين الفاسدين التابعين لإيران في سوريا والعراق.
وأيضا ما أضيف إلينا من أزمة دولة قطر التي استعار إعلامها صوت المشروع الإيراني، وبالتخصيص ما أعلنه نوري المالكي منذ سنوات حول تدويل الأماكن المقدسة للمسلمين في مكة والمدينة وشعائر الحج.
هي أطروحات إيرانية صرفة من على منصتها العـراقية.
إنها خيبة أمل وفي صميم أي محاججة أو لغة مقاربة أو نيات حسنة، رغم أنها متوفرة في ضمير كل الإخوة في مجلس التعاون لـدول الخليج العـربي، وعند كل أبناء الأمة العربية الأصحاء المعافين من الالتباس في تداخل الخنادق أو المحاور.
رؤية العالم وقراءة سيرته في عقوده الأخيرة من قبل كبار عقول الساسة وقادة مراكز البحوث والتحليل الاستراتيجي، تذهب بهم إلى تقرير نتائج اختباراتهم على أن فراغا حدث في التوازن الدولي، عقبته عمليات هدم وانفعالات وطنية محدودة، ثم تبعتها رغبات وسعي لملء تلك الفراغات بمظاهر متنافرة تسعى للارتداد إلى آثار الماضي المفقود بحكم حتمية العمر الافتراضي للفرد أو الجماعة سواء كانت حزباً أو نظاما حديديا أو إمبراطورية أو حتى فكرة أو مبدأ.
ليس بالإمكان الصمود أمام طوفان الحياة وجوهرها وتواصلها واكتشاف حقائقها وبذخ المعلومات وتدفقها في العلوم والفنون والثقافات وكل الأنشطة، تسونامي عولمي، لا نغرق فيه إنما نتبضع منه معارفنا كي لا ننساق خلف من يقف على رأس قائمة التطرف والتغول ليلهب حماسة الجموع للأيديولوجيا على شاكلة ترويج المنتجات عند شركات الإعلان.
الحشود أو الشعوب الموحدة التفكير والأزياء والجـوع، لن تنتج لنـا مع قوت يومنا إلا تجهيزات أو استشعارات ما قبل الحرب.
لماذا تتكرر عبارة “الحرب العالمية الثالثة” لدى المهتمين بأبراج فلك السياسة وقادة بعض الدول أيضاً؟
الصين تقيم استعراضا عسكرياً لأول مرة في تاريخها احتفاء بعيد تأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني.
تضمن الاستعراض صواريخ نووية وكذلك تقليدية، والرئيس الصيني شي جـين بينغ قـال “بلادنا تحتاج جيشا قويا أكثر من أي وقت مضى”.
روسيا استعرضت هي الأخرى قطعات من سلاحها البحري على سواحل مدينة طرطوس السورية شرق البحر المتوسط، وخفضت من عدد الدبلوماسيين الأميركان على أراضيها بالمئات ردا على العقوبات الأميـركية التي طالتهـا، وهي عقـوبات مضافة بدأت بالحرب على أوكرانيا، ثم ضمها لشبه جزيرة القرم واتهامها بالقرصنة الإلكترونية في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة.
منطقتنا ازدادت فيها الحوادث المؤسفة جدا لأن خلفها تاريخا طـويلا من الجرائم المتعمدة والإبـادات الممنهجة عن سبـق إصرار وترصد
قطع الأسطول الأميركي في شمال شرق آسيا. قاذفتان أميركيتان تحلقان فوق شبه الجزيرة الكورية.
نيكي هايلي، المندوبة الأميركية الدائمة في منظمة الأمم المتحدة، قالت “إن وقت المفـاوضات مع كـوريا الشمـالية قد انتهى”. الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتقد الصين لأنها لم تفعل شيئاً لحل قضية كوريا الشمالية.
اليابان تجري تدريبات للدفاع المدني، وتطلق صفارات الإنذار لمعالجة استهدافات وهمية بالصواريخ الباليستية على مدنها. كوريا الجنوبية، ورغم عقلانية قيادتها، إلا أنها على حذر وتعاون مع القيادة الأميركية، والمناورات المشتركة مستمرة.
كوريا الشمالية بدورها تطلق صاروخا باليستيا عابرا للقارات بعد سلسلة من التجارب المتقاربة زمنيا، في تطور ملفت للنظر لأن التجارب السابقة بعضها كان فاشلا تماما، والبعض الآخر كان بمديات قصيرة أو متوسطة، بما يفسر تعاونها مع إيران التي أطلقت بالتزامن صاروخا باليستيا قالت عنه لوضع قمر صناعي في مداره، في دلالة على سيناريو فاشل لإطلاق كوريا الشمالية لصـواريخ متعددة بصلاحيات تقنيـة محدودة وصولا إلى مديات طويلة.
هي خدعة غير موفقة علميا للتعتيم على تبادل المعلومات والتقنيات أو شحن جاهز لأجزاء من الصواريخ وتجميعها في مدة قياسية تتطلبها المناورات السياسية والعسكرية.
هذا ليس توقعا، فالصواريخ الباليستية تطلق من اليمن وآخـرها كـان باتجاه الطائف، هل هي صواريخ من إنتاج الحوثيين؟
من يوصل الصواريخ إلى اليمن، يوصلها إلى كوريا الشمالية، أو يوصل المعـدات النووية الكـورية الشمالية إلى إيران.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوماً بعد آخر يشطب على تاريخ القرارات والاتفاقيات التي أبرمها ووقعها الرئيس السابق باراك أوباما.
دونالد ترامب ينجح في إلغاء بعضها ويصطدم بأخرى أثناء مراجعتها في البرلمان ومجلس الشيوخ.
الاتفاق النووي مع إيران على طاولة العقوبات والانتقادات من فرنسا وبريطانيا أيضا.
ترامب سبق وأن ألغى قرار الرئيس أوباما بتطبيع العلاقات مع كوبا والصادر في يونيو 2015، وأعلن عن استعداد إدارته لتبني اتفاق جديد يخدم الطرفين مع جملة اشتراطات لتغيير النظام السياسي وإجراء إصلاحات.
جملة مراجعات أخرى لها صلة باتفاق باريس للمناخ وبمعاهدات تجارية دولية والعلاقات مع أوروبا أو مع الجوار الأميركي.
لكن هناك جانبا آخر من الفكر السياسي يضع حتى الأسلحة الاستراتيجية في كفة التوازن الأخلاقي للدول الكبرى.
ألم يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة الأميركية بالدولة الناضجة، عندما أجاب عن سؤال وجه إليه في قمة مجموعة العشرين بهامبورغ عن احتمال عمل عسكري نوعي من الولايات المتحدة يستهدف كوريا الشمالية.
التصعيد غالبا وسيلة ضغط للتهدئة وكبح جماح الحماسة للحروب، ويأتي بثمار الأمن والاستقرار.
الحوادث تقع في البر أو البحر أو الجو وتكون سببا للحرب، ومنطقتنا ازدادت فيها الحوادث المؤسفة جدا لأن خلفها تاريخا طـويلا من الجرائم المتعمدة والإبـادات الممنهجة عن سبـق إصرار وترصد، والموصل شاهد وشاهدة.
كاتب عراقي