العاصمة الإدارية لمصر أصبحت الآن حقيقة

لم يعد الحديث مفيدا عن مدى جدوى العاصمة الإدارية الجديدة لمصر، في شرق القاهرة، فمع إعلان الحكومة نقل عدد كبير من موظفيها إلى هناك مطلع مارس المقبل أصبحت حقيقة الآن، ومع تأكيد الرئيس عبدالفتاح السيسي استكمال مشروعه فيها أصبح خطاب الأولويات لا مجال له وعلى المصريين التعامل معها كأمر واقع أملا في زيادة العوائد المنتظرة، وعلى المسؤولين تعظيم الاستفادة الاقتصادية منها.
تكمن مشكلة العاصمة الإدارية الأولى في ما أنفق عليها من مليارات من الدولارات، البعض قدرها بنحو 60 مليارا، في وقت تعيش فيه مصر أزمة اقتصادية حادة، ولا تزال العاصمة تحتاج إلى المزيد من الإنفاق كي تحق أهدافها كاملة.
وتأتي المشكلة الثانية من مدى الحاجة إليها في هذا التوقيت، وعلاقتها بجدول الأولويات الذي أثار لغطا كبيرا في صفوف مواطنين وخبراء، لكن لا أحد يختلف على أهميتها كمشروع إستراتيجي بعد أن اكتظت القاهرة بالسكان وبات التحرك فيها بطيئا ودافعا إلى غضب الكثير من سكانها وروادها.
◙ المشروع يحتاج قدرا كبيرا من المرونة لتزداد مزاياه ولا يتم التعامل معه في نطاقات ضيقة تخدم طبقة أو فئة أو شريحة تعتقد أن العاصمة الإدارية ملجأ فقط
جرى التفكير في حاجة البلاد إلى عاصمة إدارية منذ فترة طويلة لحل أزمة الزحام في القاهرة التاريخية التي بدت كأنها شاخت بعد مرور أكثر من ألف عام على إنشائها، غير أن التوقيت لم يكن مناسبا والحاجة إلى الإنفاق على المشروع غير متوافرة إلى أن أخذ الرئيس السيسي زمام الخطوة وشرع في تنفيذها عقب توليه السلطة بوقت قصير، على أمل أن يتمكن من جني ثمار متعددة منها.
تتجاوز أهمية العاصمة المشروعات القومية والتنموية التي تحتاج إلى التفاف شعبها حولها، حيث كانت أحد الأسباب التي دفعت البعض إلى سحب تأييدهم الجارف للرئيس السيسي الذي رأى أنها ضرورية في الوقت الراهن، وتحولت إلى منغص للتشكيك في سياساته بعد أن أخفقت الحكومة في شرح ما تنطوي عليه من أهمية تقنع بها الناس.
هي مشروع حضاري متكامل تم تشييده ليحقق جملة كبيرة من الأهداف وسوف يحسب للرئيس السيسي أنه الوحيد الذي اتخذ خطوة شجاعة يعيد من خلالها ترتيب القاهرة وإخراجها من نفق الزحام المظلم الذي دخلته وكاد يحولها إلى منطقة مترهلة، وبموجبها سيتم ترسيم خارطة جغرافية واعدة للدولة، فلأول مرة تصبح العاصمة المصرية على مسافة قريبة من البحر الأحمر.
أحيت العاصمة الإدارية منطقة بعيدة عن القاهرة ومن المتوقع أن تخلق حياة كفيلة بأن تسهم في تطوير الاقتصاد، وتكوين مجتمعات عمرانية على حوافها جاذبة للبشر لما تحويه من مشروعات تنموية في مجالات مختلفة تمنحها الكثير من عناصر العافية الاقتصادية التي غابت عن مصر في الآونة الأخيرة.
كما أدت إلى تحفيز الدولة على تشييد مجموعة كبيرة من الطرق والجسور والمحاور المرورية بتقاطعاتها المتباينة، فضلا عن إدخال وسائل جديدة للمواصلات، بينها المونوريل والقطار الكهربائي ودعم شبكة المترو وزيادة خطوطها وتفريعاتها، وكلها تخدم العاصمة الإدارية وتربطها بالقاهرة القديمة، ما ينفي فكرة العزلة المستخدمة كذريعة لرفضها.
◙ مشكلة العاصمة الإدارية الأولى تكمن في ما أنفق عليها من مليارات من الدولارات، البعض قدرها بنحو 60 مليارا، في وقت تعيش فيه مصر أزمة اقتصادية حادة
أنهى المشروع إشكالية أمنية ظهرت تجلياتها خلال ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، فقد كانت مؤسسات الدولة الرسمية في وسط القاهرة والقصر الرئاسي الواقع على مسافة ليست بعيدة عنها هدفا للملايين من المحتجين والمتظاهرين، ما أوشك أن يشل الحياة في الأجسام والكيانات الرئيسية للدولة في ذلك الوقت.
تبعد العاصمة النائية هذه المخاوف عن الرئيس والطبقة الحاكمة والمستثمرين، فوصول أيّ احتجاجات أو انتفاضات شعبية إليها يمثل صعوبة بالغة، مع وجود بوابات عملاقة تتحكم في تأمين عمليات الدخول والخروج، حيث ستصبح أشبه بالمنطقة الخضراء في العراق ومناطق تتمتع بدرجة عالية من الحماية الأمنية في دول أخرى، وتزيد عليهم مساحتها الشاسعة وقدرتها على استيعاب الملايين من الموظفين والسكان.
تعرضت العاصمة الإدارية لقراءات متعسفة عندما تم حصر أهدافها في أنها مشروع خاص بالرئيس السيسي، يرضي طموحه في إحداث نقلة نوعية في الحياة المصرية، ولتقديرات خاطئة عندما جرى حصر التعامل معها في نطاق المباني العملاقة أو ظاهرة التفاخر بأكبر مسجد وأكبر كنيسة وأعلى مبني، فإذا كانت القراءات والتقديرات تحمل شيئا من الحقيقة فهناك ظلال أخرى لها لا تقل أهمية، تتعلق بالبشر الذين يقيمون فيها، والأنشطة المخطط لها أن تنمو على أراضيها.
يمثل البشر والأنشطة مفاتيح مهمة لإضفاء المزيد من الحيوية على العاصمة الإدارية، فالمباني الشاهقة والشوارع الواسعة والحدائق الغناء لا لزوم لها ما لم يكن هناك بشر ينتشرون فيها ومواطنون يستفيدون منها وأنشطة ترافقها.
يسهم التعاطي مع مشروع العاصمة كواقع في تكوين مجتمع يتكيف مع كل متطلبات الحياة الحديثة، يقوم أفراده باستيعاب التكنولوجيا المتطورة التي كانت جزءا أساسيا من التفكير فيها، بما يساعد على نقل الدولة إلى مكانة حضارية أخرى.
ويمكن أن يصبح هذا المجتمع نواة صلبة وبوصلة لخلق مجتمعات في أماكن مصرية مختلفة، ولذلك فالبشر ونمط تفكيرهم العصري وقدرتهم على توظيف ما تحظى به العاصمة من إمكانيات يمثّلون القيمة الحقيقية التي يمكن الحصول عليها من هذا المشروع.
◙ العاصمة الإدارية أحيت منطقة بعيدة عن القاهرة ومن المتوقع أن تخلق حياة كفيلة بأن تسهم في تطوير الاقتصاد، وتكوين مجتمعات عمرانية على حوافها جاذبة للبشر
وإذا أضيفت إلى ذلك الأنشطة الحديثة، بما يتجاوز حدود الاقتصاد التقليدي ممثلا في البناء والعمران سوف يكون هذا المكان أكبر من مجرد عاصمة لإدارة شؤون الحكم، يتخطى حصره في منطقة آمنة تتوافر فيها عناصر الهدوء والاستقرار والرفاهية.
تستطيع أن تستفيد الدولة من العاصمة الإدارية جيدا إذا تمكنت من توفير التمويلات اللازمة لاستكمالها دون أن تتسبّب في أعباء جديدة، من خلال تقديم تسهيلات كبيرة لمستثمرين يرغبون في طرق أبوابها كمنطقة واعدة في مصر، يمكن أن تنشأ بالقرب منها مناطق تتمتع بمزايا تفضيلية في الصناعات غير الملوثة للبيئة.
تبقى مجموعة من التساؤلات تتردّد حول مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في ترتيب الأولويات والأنشطة في العاصمة، والتسهيلات الضريبية والإعفاءات الجمركية التي تمنح للمستثمرين عموما، والآليات التي تتخذ كي لا تجعلها مجتمعا فوقيا أو منعزلا في مصر، أو منطقة لا يقربها غير المقتدرين.
يحتاج المشروع قدرا كبيرا من المرونة لتزداد مزاياه ولا يتم التعامل معه في نطاقات ضيقة تخدم طبقة أو فئة أو شريحة تعتقد أن العاصمة الإدارية ملجأ فقط، فالمطلوب رؤية عصرية تحول المكان الذي يحمّله البعض جزءا كبيرا من مسؤولية الأزمة الاقتصادية إلى حافز ووسيلة لتخفيف حدتها.
عندما تتمكن الدولة من توسيع مروحتها في التعامل مع العاصمة الإدارية يمكنها أن تجني منها الكثير من الثمار الاقتصادية، والتي تجعلها منطلقا للحل بدلا من حجة يلجأ إليها من يريدون النيل من سياسات النظام المصري.