العاثيات علاج المستقبل في ظل المقاومة المتزايدة للمضادات الحيوية

الكائنات الحيّة غير المرئية تتمتع بقدرة كبيرة على مهاجمة البكتيريا.
السبت 2021/11/20
العاثيات مسلحة طبيعيا بكل ما يلزم لاستهداف البكتيريا

لأنها كائنات مسلحة طبيعيا بكل ما يلزم لاستهداف البكتيريا، والقضاء عليها يعتقد الخبراء أن “العاثيات” ستكون علاج المستقبل في ظل المقاومة المتزايدة للمضادات الحيوية. وليس العلاج القائم على العاثيات جديدا، ولكن صُرف النظر عن اعتماده بعد ابتكار المضادات الحيوية في الأربعينات. وحاليا تجري العديد من الشركات تجارب سريرية لمكافحة بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية والزائفة الزنجارية بالعاثيات.

باريس - تأخذ الأوساط العلمية منذ سنوات على محمل الجدّ إمكان استخدام العاثيات كوسيلة لمكافحة المقاومة المتزايدة التي لوحظت في كل أنحاء العالم للمضادات الحيوية، إذ أن هذه الكائنات الحيّة غير المرئية التي تنمو على هامش المجاري أو الأنهار، تتمتع بقدرة كبيرة على مهاجمة البكتيريا والقضاء عليها.

وبلغت هذه الجدية بوزارة الدفاع الأميركية حدّ درس هذا الخيار عن كثب. فشركة التكنولوجيا الحيوية "أدابتيف فايج ثيرابتيكس" حصلت في الولايات المتحدة على دعم الجيش الأميركي الذي موّل أيضا شركة أخرى تعمل على العاثيات هي "أرماتا فارماسوتيكلز".

ويسعى العلماء إلى مكافحة بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية والزائفة الزنجارية، التي صنفتها منظمة الصحة العالمية ضمن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية والأكثر خطرا على صحة الإنسان.

ضد البعض من هذه البكتيريا، ومنها الإشريكية القولونية، تعمل شركة “فيريسيديس فارما” للتكنولوجيا الحيوية في رومانفيل، إحدى ضواحي باريس. وستبدأ الشركة الفرنسية قريبا تجارب سريرية ضد المكورات العنقودية الذهبية، وسبق أن عالجت 36 مريضا بعاثياتها التي أنتجتها في عملية آمنة جدا في مختبرها.

ولكن قبل كل شيء، ما هي العاثيات؟ إنها الكائنات الحية الأكبر عددا في العالم، وهي عبارة عن فايروسات تقتل بكتيريا معينة، وتتوافر بالمليارات في الطبيعة.. لكنها لا تهاجم البشر.

وهذه الكائنات مسلحة طبيعيا بكل ما يلزم لاستهداف البكتيريا، إذ أن أرجلها تتيح لها الالتصاق بها، فيما يمكّنها ذيلها من حقن حمضها النووي.

الشركة الفرنسية التي تبدأ قريبا تجارب سريرية ضد المكورات العنقودية الذهبية، سبق وأن عالجت 36 مريضا بعاثياتها

وبمجرد أن تتخذ مكانها، تختطف الآلية البيولوجية للبكتيريا من أجل إنتاج عاثيات جديدة.

وليس العلاج القائم على العاثيات جديدا، إذ طُوّر في مطلع القرن العشرين، ولكن صُرف النظر عن اعتماده بعد ابتكار المضادات الحيوية في الأربعينات.

ومع أنه بقي معتمدا في بعض دول أوروبا الوسطى، كانت تشوبه إلى وقت قريب عيوب مهمة تفسر استبعاده. فمن الصعوبة بمكان اختيار العاثيات الملائمة وإنتاجها وخصوصا تنقيتها، على ما يشرح رئيس مجلس إدارة "فيريسيديس" غي شارل فانو دو لاوري. وإذ يؤكد أن "هذا ما تختص به" شركته، وينبّه إلى أن مقاومة المضادات الحيوية تشكّل "قنبلة صحية قيد التبلور".

ويبدأ كل شيء في المختبر ببضع لترات من المياه الآسنة، تؤخذ من المجاري القريبة من المستشفيات مثلا، وهي الأماكن التي تنمو فيها البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.

ويضع الباحثون هذه العينات على زرع بكتيريا في ما يُعرف بـ”أطباق بتري”. وإذا ظهرت ثقوب، تكون البكتيريا قد دمرت، مما يعني أن العاثية الملائمة موجودة. ثم يبقى للمختبر أن يزرعها، ويخضعها لعمليات ترشيح عدة، بحيث تتم تنقيتها بالكامل لتصبح خالية من أي آثار للبكتيريا الأولية.

وتُنتج هذه العملية جرعات من ملليلتر واحد، يحتوي كل منها على مقدار مليار عاثيات، ويشكل ذلك إحدى نقاط القوة الأخرى لهذا العلاج، إذ هو يتطلب جرعات قليلة، وفق ما يوضح رئيس “فيريسيديس” التي تعمل على ثلاثة أنواع من البكتيريا، وتأمل في طرح عاثيات في السوق في غضون أربع إلى خمس سنوات.

ومن هذا المنطلق، قد تصبح العاثيات جزءا مهما من ترسانة الأطباء لمواجهة ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية التي باتت من أبرز التحديات المتعلقة بالصحة العامة. وأنشأت جامعة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية مركزا بحثيا مخصصا لها. أما في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، فبدأت شركة “أرماتا” للأدوية تجاربها السريرية على الالتهابات ببكتيريا الزائفة الزنجارية.

المختبر يقوم بزارعة العاثية الملائمة ويخضعها لعمليات ترشيح عدة بحيث تتم تنقيتها بالكامل لتصبح خالية من أي آثار للبكتيريا الأولية
المختبر يقوم بزارعة العاثية الملائمة ويخضعها لعمليات ترشيح عدة بحيث تتم تنقيتها بالكامل لتصبح خالية من أي آثار للبكتيريا الأولية

وفي باريس، يؤمن أخصائي الأمراض المعدية في مستشفى “بيتييه سالبيتريير” الدكتور ألكسندر بليبترو أيضا بإمكانات هذا العلاج. واستخدم الطبيب أيضا عاثيات “فيريسيديس” في إطار ما يسمى العلاج الرحيم على أحد مرضاه، فتعافى. لكنّ بليبترو يعترف بأن العلاج بالعاثيات يتطلب تطويرا كبيرا قبل أن يصبح ممكنا استخدامه باستمرار.

ويقول "لا نزال في البدايات. ليست لدينا قاعدة واسعة من العاثيات"، مما يحدّ من إمكان اللجوء إليها في الوقت الراهن للعلاج.

كذلك ثمة حاجة إلى المزيد من التجارب السريرية. ويرى أن "العلاج بالعاثيات لا يمكن أن يُعتمَد إلا إذا كانت المعطيات العلمية في شأنه متينة"، لكنه يؤكد اقتناعه بأنه علاج للمستقبل.

وتعد العاثيات متخصصة أكثر من المضادات الحيوية. وعادة ما تكون غير ضارة للكائن الحي المضيف، وأيضا للبكتيريا المفيدة الأخرى، مثل فلورا الأمعاء ما يقلل من فرص حدوث العدوى الانتهازية. وتملك مؤشرا علاجيا عاليا، أي يُتوقع أن تكون الآثار الجانبية للعلاج بالعاثيات قليلة، حتى في الجرعات الأكبر.

ويعتقد العديد من علماء الأحياء مثل إيفان إيريل الأستاذ المشارك في العلوم البيولوجية بجامعة ماريلاند، أن هناك على الأقل نوعا واحدا محددا من الفايروسات التي تصيب البكتيريا. وعندما تلتقط خلية الحمض النووي لهذه الفايروسات، فقد تحتوي على تعليمات تمكن تلك الخلية من أداء حيل جديدة.

وتعمل العاثيات على إبقاء التجمعات البكتيرية تحت السيطرة، سواء على اليابسة أو في البحر. وتقتل ما يصل إلى 40 في المئة من بكتيريا المحيطات كل يوم، ما يساعد على التحكم في التكاثر البكتيري وإعادة توزيع المواد العضوية.

كما أن قدرتها على قتل البكتيريا بشكل انتقائي تثير حماسة الأطباء. واستخدمت العاثيات الطبيعية والمهندسة بنجاح لعلاج الالتهابات البكتيرية التي لا تستجيب للمضادات الحيوية. ويمكن أن تساعد هذه العملية، المعروفة باسم العلاج بالعاثيات، في محاربة مقاومة المضادات الحيوية.

العاثيات قد تصبح جزءا مهما من ترسانة الأطباء لمواجهة ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية التي باتت من أبرز التحديات المتعلقة بالصحة العامة

وتشير الأبحاث الحديثة إلى وظيفة مهمة أخرى للعاثيات: قد تكون العامل الجيني النهائي في الطبيعة، حيث تصنع جينات جديدة يمكن للخلايا أن تعيد تجهيزها لاكتساب وظائف جديدة.

ومثل جميع الفايروسات، تتمتع العاثيات أيضا بمعدلات عالية من التكاثر والطفرات، مما يعني أنها تشكل العديد من المتغيرات بخصائص مختلفة في كل مرة تتكاثر فيها.

وتحتوي معظم العاثيات على غلاف صلب مليء بموادها الوراثية. وفي الكثير من الحالات، تكون للقشرة مساحة أكبر مما تحتاجه لتخزين الحمض النووي الضروري لتكرارها.

وهذا يعني أن العاثيات لديها مساحة لتحمل أعباء وراثية إضافية: الجينات غير الضرورية في الواقع لبقاء العاثية والتي يمكن تعديلها حسب الرغبة.

وتأتي العاثيات في نمطين رئيسيين: معتدل وخبيث. تعمل العاثيات الخبيثة، مثل العديد من الفايروسات الأخرى، على برنامج غزو-تكرار-قتل. وتدخل الخلية وتسيطر على مكوناتها وتصنع نسخا من أنفسها.

ومن ناحية أخرى، تلعب العاثيات المعتدلة اللعبة الطويلة. تدمج الحمض النووي الخاص بها مع الخلية، وقد تظل كامنة لسنوات حتى يؤدي شيء ما إلى تنشيطها. ثم تعود إلى السلوك الخبيث: التكرار والانفجار.

وتستخدم العديد من العاثيات المعتدلة تلف الحمض النووي كمحفز لها. وإذا تعرض الحمض النووي للخلية للتلف، فهذا يعني أنه من المحتمل أن ينتقل الحمض النووي للعاثية المقيمة بعد ذلك، لذلك تقرر العاثية القفز.

وأعادت البكتيريا تجهيز الآليات التي تتحكم في دورة الحياة تلك لتوليد نظام جيني معقد درسه الباحثون لأكثر من عقدين.

وتهتم الخلايا البكتيرية أيضا بمعرفة ما إذا كان الحمض النووي الخاص بها كُسر أم لا. وإذا كان الأمر كذلك، فإنها تنشط مجموعة من الجينات التي تحاول إصلاح الحمض النووي. ويُعرف هذا باسم الاستجابة البكتيرية.

وتنسق البكتيريا استجابة باستخدام بروتين يشبه التبديل يستجيب لتلف الحمض النووي: يتم تشغيله إذا كان هناك ضرر ويبقى متوقفا إذا لم يكن هناك.

وربما ليس من المستغرب أن تكون المفاتيح البكتيرية والعاثية مرتبطة تطوريا. وهذا يدفع العلماء إلى التساؤل حول من اخترع التبديل، هل هي البكتيريا أم الفايروسات؟

العديد من العاثيات المعتدلة تستخدم تلف الحمض النووي كمحفز لها

 

17