الطبقية اللغوية.. النساء في المرتبة العليا

أخبرتني صديقة مستشرقة وباحثة هولندية، منذ وقت قصير، أنها تفضل أن تتعلم اللغة العربية من النساء قبل الرجال، قائلة إن المرأة أفضل من الرجل في إبلاغ وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. كان كلامها مفاجئا حقيقة، فأنا لم يخطر على بالي أبدا في السابق أن اللغة تتأثر بجنس الناطقين بها. لكن صديقتي قالت إن لها تجربة في هذا الموضوع، فقد حضرت ندوة لزميلة لها مستشرقة ودهشت من المصطلحات والجمل والتراكيب التي كانت هذه السيدة تستعملها، بل دهشت حتى من حركة يديها وطريقة توظيفها لرأسها ونظرتها وتعبيرات وجهها.
اللغة حسب محدثتي الهولندية كائن حي، ومنتج إنساني تفاعلي، يتأثر بما حوله ويؤثر فيه، وهو كائن حساس جدا تجاه المحيط الثقافي والديني والأنثروبولوجي، الأمر الذي يجعل اللغة في الدول العربية تنقسم إلى شقين: لغة ذكوريّة ولغة أنثوية، وهي طبقية لغوية متأتية من طبقية جندرية، فوضع المرأة الأدنى من وضع الرجل في جميع المستويات، أوجد تفاوتا في الاستعمالات اللغوية بين الجنسين، لكنه تفاوت انتهى إلى أن يكون في مصلحة اللغة نفسها هذه المرة.
تتميز اللغة الذكورية بالتعالي والغوغائية، تقول محدثتي، صوت المفردات عال، وإيقاعها سريع ومشتت. تستطيع أن تتخيل الأمر كما لو أن فرقة موسيقية تتدرب على معزوفة ما. أصوات متداخلة، وإيقاعات متفاوتة ينقصها التركيز. أغلب مصطلحاتها تخاطبية، تناظرية، وهو ما يتأتى من علاقة الرجل بمحيطه الذكوري الخارجي، ودخوله المستمر فيما يشبه النقاش أو المناظرة التي يرغب في الفوز بنتيجتها.
وأهم سمة في مخاطبة الرجل للرجل هي الحرص على إخفاء النزعة العدائية للآخر، عبر استعمالات بعينها، كأن يخاطب الرجل غيره بـ”صاحبي”، “خويا” وغيرها من النداءات التي “تهادن” مع عدائية موروثة، وعنف مبطن للآخر بسبب نزاع اجتماعي وعرقي وطبقي واثني لا يزال مفروضا على الثقافات العربية. وهي استعمالات نكاد لا نجدها في ثقافات أخرى، حيث لا حاجة إلى المهادنة السطحية، في ظل وجود قوانين وأنظمة ودساتير تكفل، فعليا، المساواة بين كافة الأجناس والطبقات.
الحرص على التغليف السلمي الذي يخفي داخله عدوانية مبطنة، هو من أساليب المناورة ومن أدوات القتال التي يتوجب على الرجل امتلاكها في ظل “حرب لغوية” مفروضة عليه سلفا يتوارثها من جيل لجيل.
الشحنة الحسية في اللغة الذكورية فقيرة، واللغة متقشفة، فالرجل حريص على ألا يظهر ما بداخله من أفكار ومشاعر حقيقية “تعريه” أمام الآخرين، فيعمد إلى تراكيب وجمل تكاد تكون مفرغة من المعنى، وفي أحيان أخرى تحتمل أكثر من تفسير، مما يجعل لغته فضفاضة، عامة، مبهمة في أغلب الحالات.
المرأة، حسب محدثتي، عكس ذلك تماما، فهي مسالمة، لأنها لم تدخل حربا من أي نوع، ما عدا حرب إثبات كينونتها وحقوقها، التي لم يتحقق لها الفوز فيها بعد بسبب عدم خبرتها وامتلاكها للوسائل الضرورية. وهذا التاريخ المسالم ينعكس على لغتها أيضا، فهي لغة هادئة، نبرتها منخفضة، فضلا عن كونها لغة مركزة ودقيقة، وفي الغالب مباشرة؛ أي أنها تسمي الأشياء بأسمائها وتذهب إلى الهدف مباشرة.
الجمل مليئة بالمعنى، وكل كلمة تحمل في داخلها دلالتها المباشرة، مما يجعلها أقل غموضا ورمزية.
لغة المرأة هشة وحساسة وقريبة مما هو إنساني، فحساسية المرأة للوجود والعالم والإنسان والطبيعة عالية بسبب قدرتها العالية على الاستقبال والتفاعل والامتصاص. وتنعكس هذه الصفات على استعمالاتها اللغوية التي تقترب مما هو يومي وتلمس الأشياء في عمقها أكثر مما تتماس معها. ولأن المرأة أقل انشغالا من الرجل، فهي أيضا أكثر تركيزا واهتماما بالتفاصيل وقدرة على مد علاقات مع المحيط، وهو ما ينعكس أيضا على لغتها.
لا أستطيع الجزم بصدق ما ذهبت إليه صديقتي المستشرقة، ففي ظل كل الانقسامات التي تميز المجتمعات العربية ليس من مصلحة أحد إضافة انقسام جديد وطبقية جديدة. في المقابل لا أستطيع أن أنكر أن قراءتها لوضع اللغة في المجتمعات العربية تبدو موضوعية ومتوازنة، واستخلاصاتها منطقية، تحديدا لأنها تأتي من الخارج، ومن زاوية محايدة.