الضفة الغربية جبهة مقاومة مساندة تفضح وحدة الساحات

فضحت حرب غزة ونأي إيران بنفسها عن المواجهة مع إسرائيل ما تم الترويج له منذ مدة بشأن وحدة ساحات المقاومة. ويرى مراقبون أن التناغم المتصاعد بين الضفة والقطاع على وقع الاستياء من موقف السلطة الفلسطينية سيصنع فارقا.
تجد مجموعات فلسطينية مسلحة في الضفة الغربية فرصة سانحة أمامها لإثبات حضورها وتعظيم فاعليتها مع الحرج الذي يقيد السلطة الفلسطينية إذا تصدت، كما كانت في الماضي، للمواطنين الرافضين للاحتلال في ظل اندلاع الحرب على قطاع غزة والجرائم التي ترتكبها إسرائيل.
ومع تنامي دور المقاومين في الضفة وإرباك حسابات الجيش الإسرائيلي ثبت أن هؤلاء يمكن أن يلعبوا دور المكمل الأكثر ثقة لنظرائهم في غزة، وأنهم الأنقى نضالًا بعد انكشاف خذلان مسار ما عُرف بوحدة الساحات المرتبط بمحور إيران في المنطقة لمقاتلي حركة حماس.
وحذرت تقارير أميركية من اشتعال جبهة صراع ثانية ضد إسرائيل في الضفة الغربية، دعمتها تحذيرات عربية متكررة من انفجار الوضع هناك بالكامل، عقب تصاعد عمليات المقاومة من حيث العدد والنوعية منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، وما تبعها من استنفار عسكري إسرائيلي، وظهور المستوطنين مدججين بالسلاح وإمعانهم في استهداف الكثير من الفلسطينيين.
وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن حالة عدم الاستقرار في الضفة الغربية بلغت أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل بدء الحرب على غزة، ما ضاعف المخاوف من اعتبارها مع الوقت ضمن ساحة المواجهة مع إسرائيل.
وارتفعت وتيرة حملات الدهم وهجمات الجنود والمستوطنين، التي تستهدف مدن الضفة ومخيماتها، وقُتل العشرات إثر اقتحام القوات الإسرائيلية مدينة جنين ومخيمها، وتم أسر مئات آخرين من مناطق مختلفة.
بؤرة صدام جديدة
تنامي دور المقاومين في الضفة أثبت أنهم يمكن أن يلعبوا دور المكمل الأكثر ثقة لنظرائهم في غزة بعد خذلان إيران
على الرغم من الوضع المعقد والتحديات التي تواجه مجموعات المقاومة في الضفة حيث باغتتها الأحداث وهي منهكة ومستنزفة بعد أن وُجهت إليها ضربات قاسية مع خسارتها غالبية كوادرها، إلا أنها أظهرت قدرة على الصمود وزادت من وتيرة عملياتها بالتزامن مع الحرب البرية والتحام مقاتلي حماس في غزة مع الجنود الإسرائيليين من النقطة صفر.
ولم يقتصر النشاط المُقاوم في الضفة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، على المظاهرات وتنظيم وقفات التضامن إنما جرت مواجهات عنيفة أسفرت عن سقوط العديد من القتلى والجرحى في عموم الضفة الغربية.
وتشكلت لجان حماية شعبية للدفاع عن السكان وحمايتهم من اعتداءات المستوطنين الذين يمارسون عنفا بحق الأهالي تحت حماية الأمن والجيش، بالتزامن مع توسع دائرة الاشتباك المسلح بين مجموعات المقاومة وقوات الاحتلال.
ومثل اندلاع الحرب على غزة فاصلًا بين وضع يعكس ما يشبه تجمع عاصفة قوية في كل مناطق الضفة نتيجة الإحباط والقتل اليومي وهدم المنازل وطرد السكان مع تزايد الكراهية لإسرائيل والاستياء من موقف السلطة الفلسطينية المُداهن والسلبي، ووضع مختلف هبت معه العاصفة مُنذرة بثورة حذر مراقبون من أنها أقرب إلى التفجر من أي وقت مضى.
وكسرت الحرب الجارية والفظائع التي ارتكبت خلالها ضد المدنيين في غزة حاجز القيد المتمثل في موقف السلطة الفلسطينية التي كانت تحافظ على التهدئة وتسهم بجانب قوات الأمن الإسرائيلية في ضبط الوضع بملاحقة واعتقال من يمارس نوعا من الرفض ضد قوات الاحتلال.
وبات موقف السلطة الفلسطينية أضعف من ذي قبل، فإما أن تدعم المقاومة في الضفة أو تقف محايدة وتجد مخرجًا سياسيا تفتقر إلى أدواته وأوراقه.
وفي كل الأحوال لم تعد السلطة الفلسطينية وقوات أمنها تملكان مبررات أخلاقية وسياسية لكبح المقاومة في الضفة والتعاون مع القوات الإسرائيلية في تقييد نشاطها بعد المستوى غير المسبوق الذي وصلت إليه آلة القتل.
تناغم الضفة والقطاع

حال الانقسام الداخلي ونظرة البعض السلبية للمقاومة والتنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال قبل اندلاع الحرب دون اندلاع انتفاضة جديدة ودون تمكن المجموعات المسلحة في شمال الضفة من تطوير أدواتها وإمكانياتها ومضاعفة أعداد منتسبيها.
واختلف الوضع الآن ووضح للجميع أن الفصل بين غزة والضفة هو ما أدى إلى استفراد قوات الاحتلال بكل منهما على حدة بوسائل مختلفة.
كما لم يعد من المستساغ سماع لغة مهادنة من قِبل مسؤولين بالضفة يستخدمها إسرائيليون ومؤيدون لهم، مثل وصف أمهات المقاتلين بالتهور واللاتي “يرسلن أبناءهن إلى الانتحار”، وهو ما ورد على لسان محافظ نابلس التابع لحركة فتح إبراهيم رمضان.
وما يدل على التغير في مستوى الانقسام في الخطاب والممارسة بين السلطة الفلسطينية والمواطنين العاديين هو انخراط بعض العناصر الأمنية في المقاومة بشكل فردي، وتبين أن بعض الشهداء الذين انضموا إلى المقاومين في مدن شمال الضفة هم في الأساس عناصر في الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
السلطة الفلسطينية حاولت بإيعاز من الإسرائيليين احتواء عدد من المقاومين بتوظيفهم داخل الجهاز الأمني الفلسطيني، لكن الإغراءات مُنيت بفشل
وإذا مضت الضفة في هذا الاتجاه من حيث تقليص الفروق بينها وبين غزة وإلحاقها بالعمل المقاوم الشامل وإعطاؤها الأولوية للمقاومة والتحلل من اتفاقية أوسلو واختراق السلطة أو تحييدها، سوف يصنع ذلك فارقًا هائلًا لصالح المقاومة بالنظر إلى المزايا الكبيرة التي تتمتع بها الضفة مقارنة بغزة.
وتتميز الضفة عن غزة باتساع المساحة الجغرافية والانتشار السكاني ووجود المستوطنات بمحيط التجمعات السكانية، وهو ما أتاح استخدام وسائل عدة للمقاومة الشعبية عبر أدوات في متناول الجميع، حيث لا تقتصر المقاومة على استخدام السلاح ولا تتطلب تشكيل كيان منظم.
ويضع تنامي الثورة تدريجيا في الضفة الغربية واتساع نطاقها إسرائيل أمام التحدي الأصعب منذ غزوها المدن الفلسطينية وقضائها على بنية الفصائل الفلسطينية العسكرية خلال عملية “السور الواقي” عام 2002، خاصة أنها لا تقتصر على نشاط المقاومين إنما تتنوع أدواتها وأنشطتها وتنبع من شعور شعبي غاضب ومُحبَط.
ويعد توحيد الصف الفلسطيني والتفافه حول برنامج واحد في الساحتين انطلاقا من التطورات في غزة والضفة ضامنًا لتحقيق الهدف الذي انخرطت حماس من أجله في مسار “وحدة الساحات” بمحور المقاومة وفشلت في تحقيقه، وهو تخفيف الضغط عن غزة وعدم الاستفراد بها وتشتيت جهود الجيش الإسرائيلي.
وأدت عمليات مجموعات مثل “كتائب جنين” و”سرايا نابلس” و”عرين الأسود” خلال العامين الماضيين بعملياتها الجريئة ضد عناصر الجيش الإسرائيلي والمستوطنات إلى صداع لا ينتهي في رأس إسرائيل، وفقًا لمانشيت بأحد أعداد صحيفة “جيروزاليم بوست”.
وحذر وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مبكرا من خطورة ما يمكن أن يصل إليه إسناد جبهة الضفة إلى جبهة غزة وتخفيفها الضغط عنها، حيث اعترف بأنه دفع نصف قوة جيشه كاملة لتصفية مجموعة مسلحة صغيرة في الضفة وهي “عرين الأسود”، على الرغم من أنها مشكلة من ثلاثين عنصرًا فقط جميعهم تحت سن الثلاثين.
واختلفت حسابات جبهات مسار “وحدة الساحات” الإقليمية والمتعلقة بمصالح المركز في إيران عن حسابات الساحة الفلسطينية التي كانت تحتاج إلى دخول منجز وسريع وكاسر لقواعد الاشتباك بهدف معادلة موازين القوى وكبح إسرائيل عن تدمير جزء كبير من غزة وتقويض بنية المقاومة المسلحة في القطاع.
مصلحة فلسطين أوّلا
تقارير أميركية حذرت من اشتعال جبهة صراع ثانية ضد إسرائيل في الضفة الغربية، دعمتها تحذيرات عربية متكررة من انفجار الوضع هناك بالكامل
تعمل المقاومة المسلحة في الضفة لحساب المصلحة الفلسطينية فقط وليس لها ارتباط بمصالح قوى إقليمية، وتنخرط في المعركة والمواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي قبل تنفيذ عملية طوفان الأقصى.
ولم تتردد وتتلكأ مجموعات المقاومة المسلحة في شمال الضفة، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها في مناصرة غزة في محنتها بخلاف جبهات ما عُرف بوحدة الساحات، فما يحركها هو القضية الفلسطينية فقط.
وتبين مع تطورات الحرب والميدان مدى الفارق الذي كان يمكن أن يصنعه توحيد الساحة الفلسطينية وتعميق الروابط بين المقاومة في غزة والضفة، والاهتمام بتطوير الفصائل في الثانية بدلًا من ارتهان جبهة غزة لجبهة جنوب لبنان التي تتحرك وفقًا للمصلحة والقرار الإيرانيّيْن.
وفطن الجيش الإسرائيلي لهذا الخطر مبكرًا وسعى لإجهاضه بعملية السور الواقي التي أنهت المظاهر المسلحة وأبقت على سلطة ضعيفة منزوعة السلاح، تبعها تنفيذ عمليات عسكرية كلما اقتضت الحاجة مثل “كاسر الأمواج وطنجرة الضغط وجز العشب” التي تركزت في جنين ونابلس (البلدة القديمة) والخليل والقدس.
وحاول الاحتلال الإسرائيلي خلق انقسام داخل الضفة عبر التمييز بين السكان وإعطاء مزايا لمن ينحازون إلى الهدوء مقابل المعاملة القاسية في حق كل من تثار حوله شبهات دعم المقاومة أو ممارساتها بوسائل مختلفة.
وحاولت السلطة الفلسطينية، بإيعاز من الإسرائيليين، احتواء عدد من المقاومين بتوظيفهم داخل الجهاز الأمني الفلسطيني، لكن الإغراءات مُنيت بفشل، وثبت أن ما يحدث الآن هو العكس عبر انضمام عناصر من الجهاز الأمني للسلطة إلى مجموعات المقاومة.
وكي تواكب القوات الإسرائيلية التطور الجاري في مدن الضفة ومخيماتها زادت إجراءاتها القمعية ونفذت اغتيالات واعتقالات بالجملة، ويدور الحديث عن مئات الشهداء وآلاف المعتقلين في صفوف كيانات المقاومة بالضفة منذ بدء العدوان على غزة.
وشددت القوات الإسرائيلية إجراءات التفتيش وملاحقة العناصر النشطة ونصبت حواجز ونفذت اقتحامات شملت غالبية المدن والقرى والمخيمات، وأغلقت بعض الأماكن وحاصرتها لمنع الانتقال من منطقة إلى أخرى.
ومن المرجح أن يتأثر مسار المقاومة وخططها وبرامجها على وقع الحرب الحالية وأن تختلف سياقاتها عن تلك التي سبقت تاريخ السابع من أكتوبر، إذ وضح أن وحدة الساحة الداخلية أولى مما عُرف بوحدة الساحات الخارجية، وأن ما يحول دون الاستفراد بجبهة فلسطينية هو التوسع داخل الجبهات الداخلية وتنويع مظاهر المقاومة وليس انتظار دعم لا يأتي من ساحات خارجية لها حسابات معقدة تجعلها مكبلة.