الصحة مريضة في غزة

في الوقت الذي تدخل فيه غزة موجة خامسة من فايروس كورونا يعيش القطاع الصحي وضعا حرجا أدى إلى تفعيل منظومة الطوارئ الطبية، إثر ترك 42 طبيبا من الكوادر المختصة من أصل 350 مناصبهم، بعد أن أوصلتهم التراكمات الكثيرة إلى اتخاذ هذا القرار، الذي حاولت بعض الأطراف المحسوبة على حماس أن تنسبه إلى السلطة، بذريعة أن مستشفى كمال عدوان يقدم خدمات طبية عسكرية لعناصر حماس والفصائل الفلسطينية، الأمر الذي نفته وزيرة الصحة الدكتورة مي الكيلة مؤكدة أن الوزارة مستمرة في دفع الرواتب وتوفير المستلزمات الصحية لدعم قطاع الصحة في غزة.
لم يكن السبب المادي وراء ترك هؤلاء الأطباء مناصبهم بقدر ما كان السبب تسييس المنظومة الصحية في غزة، واستناد الترقيات والتعيينات إلى خلفيات حزبية، في الوقت الذي أصبحت فيه الخبرة أو الكفاءة آخر ما يفكر به المشرفون على المنظومة الصحية المريضة في غزة. وصار تهميش الكوادر الطبية التي لا تزال تتبع إداريا رام الله واضحا لدى الأطباء، خاصة بعد سلسلة التعيينات الأخيرة في مستشفى كمال عدوان والتي كانت القطرة التي أفاضت الكأس.. كيف لا والكوادر الطبية المعروفة بالخبرة والكفاءة قد أصبحت تحت سلطة حديثي الخبرة ممن عينهم المدير الجديد في المستشفى.
هذا غيض من فيض، وهو يكشف كيف تدار المنظومة الصحية في غزة، بينما تلقي الوزارة المسؤولية عن تدهور القطاع على سياسات الاحتلال تارة، وعلى وزارة رام الله تارة أخرى. ولكن الحقيقة أن هذا القطاع الحساس في غزة لا يخلو من شوائب السياسة، ويؤكد بذلك للعيان أن التعامل مع أصحاب المهنة النبيلة في غزة يتم وفق سياسة “من ليس معي فهو ضدي”. وبدلا من أن تعالج وزارة الصحة في غزة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ترك هؤلاء الموظفين لعملهم، راحت تتهمهم بالانصياع إلى أوامر من رام الله محسوبة على فتح، الهدف منها إلحاق شلل بالمنظومة الصحية، في حين أن هذه المنظومة منهارة في الأصل وتفتقد للإمكانيات ولبيئة عمل تمكن الأطباء من أداء مهامهم على أكمل وجه.
كشف وباء كورونا احتضار المنظومة الصحية في غزة وعدم قدرتها على فعل أي شيء، ولولا ألطاف الله ومناعة سكان غزة المكتسبة من انعدام مقومات الحياة فيها لاختفى نصف سكان القطاع. كما كشفت كورونا أن قطاع الصحة في غزة يعيش على المساعدات وغير قادر على احتواء عدد كبير من المصابين في ظل نقص الكادر البشري، وهو تماما ما يحصل في كل مواجهة عسكرية مع الاحتلال، حيث تكتفي المستشفيات بتقديم الإسعافات الأولوية وتدرج الإصابة الخطيرة ضمن القائمة التي تستدعي الحصول على تصاريح العلاج في دولة الاحتلال.
وعلى الرغم من أن الملايين من الدولارات دخلت غزة عن طريق قطر فإن الحكومة لم تدرج ضمن مخططاتها أي برنامج لبناء مستشفى جديد يخفف من العبء الذي تعيشه المستشفيات الحكومية والتي يقصدها الغلابة، واكتفت بإسناد المهمة لقطر حتى في التدريب الطبي وكأن دور وزارة الصحة قد أفرغ من محتواه.
إن الربط بين ترك الأطباء لمناصبهم بإملاءات من وزارة الصحة في رام الله، هو تهرب من مواجهة الحقيقة وتحمل المسؤولية، بل هو نوع من سياسة فرض الأمر الواقع ضد كل صوت محسوب على فتح، حتى وإن كان من أصحاب المهنة النبيلة، وفي قطاع من المفترض أن يكون بعيدا عن التجاذبات السياسية ومسخرا لخدمة الإنسانية فقط.
وبدل أن يمارس المسؤولون التضييق على الأطباء وإجبارهم على ترك مناصبهم، يفترض بهم أن يبحثوا عن إصلاح المستشفيات المتهالكة والتي لا تمت بصلة إلى كلمة “صحة”، وصرف جزء من أموال الجباية وأموال قطر لتوفير اللوازم التي يحتاجها الأطباء والمرضى على حد سواء، بدل انتظار التمويلات من السلطة الفلسطينية واتهامها في نفس الوقت بممارسة ضغوط على الأطباء لخلق حالة طوارئ.