الشيخ عبدالله بن زايد من واشنطن.. سياسة بلا أوهام

في السياسة، كما في الحرب، لا يكسب الصوت العالي المعركة، وحده الخطاب المتزن، يستحق أن يُسمّى سياسة خارجية، هذا ما فعله الشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية الإمارات، في مقابلته الأخيرة مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية، فلا يمكن لمن يُحسن الإصغاء أن يُخطئ الإشارات التي بعث بها من واشنطن إلى الداخل الأميركي، وإلى المنطقة بأسرها بالتزامن مع زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الإمارات العربية المتحدة.
المقابلة كانت مزيجا من الثقة الهادئة، والحضور الناضج لدولة اختارت منذ سنوات أن تلعب أدوارا لا تقتصر على الداخل الخليجي، بل تتجاوزه إلى إعادة تشكيل ميزان العقل في الشرق الأوسط، لم يكن الشيخ عبدالله بن زايد يقرأ من ورقة، بل من تجربة، كان يتحدث عن غزة وسوريا وإيران بلغة من يعرف التفاصيل، ومن يراهن على الممكن لا على الأوهام.
أحد أبرز محاور اللقاء كان سؤال المذيع الأميركي عمّا إذا كان يمكن للرئيس ترامب أن يثق بالرئيس السوري أحمد الشرع، الجواب جاء دبلوماسيا بقدر ما كان سياسيا “من المبكر استخدام كلمة ثقة،” قالها الشيخ عبدالله دون مواربة، مضيفا أن الحكومة السورية الحالية تقول الأشياء الصحيحة، لكن من الواضح أنها لا تمتلك بعد الإمكانيات لتنفيذ ما تعد به.
◄ بينما تلتزم الإمارات بصيغة العقلانية الصارمة التي ترفض الخلط بين الملفات.. نجد أن دولا أخرى تعتمد أدوات مختلفة
هنا تتجلى براعة الخطاب: لا تشكيك في النيات، ولا غطاء مجانيا، لا اصطفاف أيديولوجيا، بل مقاربة عقلانية ترى أن السياسة فعل مشروط بالقدرة، وأن الأمل لا قيمة له ما لم يقترن بإصلاح حقيقي، ثم جاءت العبارة المفتاحية “كما قال الرئيس ريغان: ثق ولكن تحقق.”
الاقتباس لم يكن عرضيا، بل محسوبا بدقة في سياق إعلامي يخاطب جمهورا جمهوريا محافظا، يرى في رونالد ريغان مثالا للردع الذكي والحنكة السياسية، استخدام هذه العبارة في هذا التوقيت، ولدى هذه القناة بالذات، لا يحمل فقط دلالة لغوية، بل يشير إلى موضع الإمارات في خارطة الثقة الأميركية: ليست طرفا عاطفيا يوزع الأحكام، بل هي حليف واقعي يزن كلماته ويضع المصالح فوق الشعارات.
هذه النبرة حضرت أيضا في ملف إيران، فالشيخ عبدالله لم يهاجم النظام الإيراني كمنصة للخطابة، بل قدّم “النموذج الذهبي” الإماراتي في التعامل مع الطاقة النووية، نموذج تم بناؤه على شراكة شفافة مع واشنطن، واحترام صارم للضمانات الدولية، وهو، بحسب كلامه، المسار الذي كان على إيران أن تسلكه. بكلمات بسيطة: يمكن امتلاك الطاقة، لكن لا بد من الشفافية والثقة.
والأهم، أن المقاربة الإماراتية لم تكتف بإدانة “أذرع إيران” في اليمن ولبنان وغزة، بل ربطت الملف النووي بسلوك الدولة خارج حدودها، فالمشكلة ليست فقط في أجهزة الطرد المركزي، بل في الصواريخ العابرة للمناطق، في زرع الانقسام داخل الدول، وفي تصدير الأيديولوجيا كبديل للدولة الوطنية، هذه هي المعركة الحقيقية، وهذا ما تحاول الإمارات منذ سنوات مواجهته ليس بالكلام بل بالفعل.
أما في غزة، فقد كانت الأرقام أبلغ من الخطابة: 42 في المئة من مجمل المساعدات الإنسانية التي دخلت القطاع خلال العامين الأخيرين جاءت من الإمارات، هذه حقيقة لا يمكن لمن يريد المزايدة أن يتجاهلها، ومن دون “اتفاقيات إبراهيم” لما تمكنت تلك المساعدات من الوصول أصلا، هذا ما قاله الشيخ عبدالله، مضيفا أن الهدوء في غزة يتطلب سلطة غير تابعة لحماس، مرة أخرى، لا تعميم ولا شتائم، بل تشخيص دقيق للواقع: لا يمكن لحركة عقائدية تحمل مشروعا إقليميا أن تكون مسؤولة عن إدارة معيشة الناس.
في هذه المقابلة، لم يكن وزير خارجية الإمارات يشرح موقف بلاده فحسب، بل كان يقدّم للإدارة الأميركية، ولسواها، معادلة جديدة في الشرق الأوسط: نحن لسنا حمائم ولا صقور. نحن عقلٌ يبحث عن الشراكات المستقرة، ويريد شرقا أوسط بوجوه أقل عنفا، وأكثر براغماتية.
◄ المقابلة كانت مزيجا من الثقة الهادئة، والحضور الناضج لدولة اختارت منذ سنوات أن تلعب أدوارا لا تقتصر على الداخل الخليجي، بل تتجاوزه إلى إعادة تشكيل ميزان العقل في الشرق الأوسط
هنا يبرز جوهر السياسة الخارجية الإماراتية: لا تطرف في العداء ولا تهور في الولاء، الإمارات ليست الدولة التي تغير مواقفها حسب تبدلات المزاج الدولي، بل هي الدولة التي تبني علاقاتها على أرضية صلبة، وتدرك أن الشرعية لا تأتي من الصراخ بل من المنجز.
خطاب الشيخ عبدالله بن زايد في “فوكس نيوز” لم يكن دفاعا عن توجه إماراتي، بل هو بيان ناضج عن الدور الذي يمكن للعرب العقلاء أن يلعبوه في عالم مضطرب، الخطاب لم يكن موجها لحصد التصفيق من الجمهور العربي المتوجس دائما، بل لطمأنة حليف إستراتيجي بأن هناك من يتحدث بلغة المصالح المشتركة، وليس بلغة العواطف الغاضبة أو الأوهام الثورية.
لا تكتمل قراءة الخطاب الإماراتي إلا بمقارنته مع أداء الأشقاء في الخليج العربي، فبينما تلتزم الإمارات بصيغة العقلانية الصارمة التي ترفض الخلط بين الملفات (كالفصل بين النقد الإيراني للسلوك الإقليمي والانفتاح على الحوار النووي)، نجد أن دولا أخرى تعتمد أدوات مختلفة: عُمان تُجيد لغة الوساطة والحياد المسلح بالصمت، بينما تُفضل السعودية الربط الواضح بين الملف النووي والأمن الإقليمي في خطابها، أما قطر فتراهن على الدبلوماسية النشطة والحمائية الإعلامية، هذه التباينات لا تعني تفوق نموذج على آخر، بل تكشف أن الإمارات تختار بعناية معاركها: فلم تتحول إلى منصة للخطاب الأيديولوجي مثل الرياض، ولم تتبع النموذج القطري في استثمار الإعلام كسلاح ناعم، حتى في التعامل مع واشنطن، لم تكرر الإمارات النهج الكويتي أو البحريني القائم على العلاقة الأمنية التقليدية، بل حولت التحالف إلى شراكة تكنولوجية (كالطاقة النووية السلمية وصفقات الأسلحة المتطورة)، هنا بالذات يظهر التفرد: الإمارات تتعامل مع السياسة الخارجية كمختبر مشاريع، حيث تُقاس الشرعية بالمنجز لا بالخطاب.
في زمن الفوضى والتصعيد، يبدو الصوت العقلاني نشازا، لكنه في الحقيقة الصوت الوحيد القادر على إقناع الحلفاء وتهدئة الخصوم، الإمارات لم ترفع صوتها كثيرا، لكنها قالت الكثير.