الشعب المصري الافتراضي

الشعب الافتراضي يزداد انتشارا وتغولا ونفوذا، وهي مشكلة قد تكون موجودة في عدة دول باتت السوشيال ميديا رقما معتبرا فيها ما يفسر انتباه بعض الدول الكبرى مبكرا للسيطرة على هذه الأداة.
الاثنين 2024/07/22
أكثر من مصر داخل مصر

هل يمكن التعرف على سمات الشعوب من مواقع التواصل الاجتماعي بدقة، وهل يمكن أن يكون التقييم قريبا من الواقع أم خياليا، وهل ما يتم طرحه عليها يعبر عن الوجدان العام للمواطنين ويَصلح لأن يكون مؤشرا على حركة المجتمع واهتماماته؟

من يتابع السوشيال ميديا في مصر هذه الأيام يخرج بانطباعات متباينة، لأن الشعب الافتراضي الذي ينشط عليها يعبر عن شريحة صغيرة، ولا يعبر عن الشريحة الكبيرة من المصريين، ومع ذلك أصبحت الشريحة الأولى تتحكم في مصير الثانية، وتفرض أجندتها على المجتمع، وعلى الحكومة أحيانا، والتي يتحرك بعض الوزراء فيها بناء على قضايا تحتل مراكز متقدمة في التريندات، وليس انطلاقا من أولويات يحددونها.

تأتي الأزمة الحقيقية من عدم مراعاة الفروق في الشريحة الصغيرة نفسها، فداخلها فئات وطبقات ومستويات، بعضها يتحرك بتلقائية، والبعض الآخر وفقا لأجندة، قد تكون مع الحكومة أو ضدها، فما يسمى بالميليشيات أو الذباب الإلكتروني انتشر بشكل واسع، وتأثيره صار خطيرا في بعض القضايا التي يتعمد إثارتها من يقفون خلف الميليشيات والذباب ويوفرون المال الذي يدفعهم إلى التركيز على قضايا وإهمال أخرى.

◄ الشعب المصري الافتراضي ينمو، ويملك مغريات مادية ومعنوية، ناهيك عن السياسية التي تظهر في المهام التي يقوم بها البعض لتضخيم وتشويه وتقزيم رؤية الآخر

حدثني صديق عربي عن مصر التي يراها على السوشيال ميديا، وتلك التي رآها في الواقع عند زيارته إلى القاهرة، ووجد الفرق بينهما شاسعا إلى درجة أنه شعر بأن مصر التي عرفها منذ سنوات طويلة تختلف عن تلك التي شاهدها الآن، وأن مشكلته في رسم صورة واضحة، فإذا اعتبرها فقيرة تكذبه المنتجعات التي يشاهدها في الإعلانات وهي غير قاصرة على منطقة معينة، وإذا اختزلها في هذه المنتجعات تكذبه المناطق الفقيرة والعشوائيات التي رآها في أحياء شعبية متفرقة.

وضع صديقنا يده على نقطة مهمة، أن التصنيف الطبقي التقليدي الذي يقوم على ثلاث طبقات، عليا ودنيا ووسطى، لم يعد سائدا في مصر، فداخل كل فئة طبقات بعضها فوق بعض ومتداخلة، تتقارب أو تتباعد، لكنها في النهاية يصعب القول إنها قاصرة على جماعة محددة.

وهي إشكالية لاحظها مفكر عربي كبير زار مصر مطلع التسعينات من القرن الماضي، أي قبل ثورة التكنولوجيا العارمة، وحدثني في حينه عن وجود أكثر من مصر داخل مصر، عندما لفت نظره التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، والذي ازداد في الوقت الراهن، حيث ارتفعت طبقة وتهاوت أخرى.

أحدثت مواقع التواصل ثورة في قياسات الرأي العام، بالمعنى الإيجابي؛ حيث سهلت طريقة التعرف على توجهات المواطنين واهتماماتهم، فأحيانا نتحدث عن شراء منزل أو سيارة ثم فجأة تقفز أمامنا سلسلة من الترشيحات لمنازل وسيارات فارهة، وربما يتحدث المرء سرا مع نفسه أو يكتب ما يعبر عن رغبته في اقتناء سلعة معينة أو يتحدث مع من حوله فيجدها أمامه على هاتفه سريعا.

◄ مواقع التواصل تقاس من خلالها توجهات الرأي العام موقف تجاوزته الأحداث، لأن مهمتها الأشد خطورة تكمن في توجيهه نحو قضايا وترك أخرى

أما المعنى السلبي، والذي يخص الجانب السياسي، فإن الحكومات التي تتخذ من السوشيال ميديا وسيلة للتعرف على أمزجة شعوبها قد تقع في خطأ بالغ، لأن من ينشطون عليها لا يعبرون عن شريحة غائبة عنها، لا تتعامل معها أو لا تعرفها أو لا ترغب في الاشتباك معها، بالتالي سيكون من الصعب الانسياق خلفها واعتبارها مقياسا عدلا للرأي العام، ووقعت بعض السلطات التي تلجأ إليها كمعيار وحيد للمعرفة في مشكلة مزدوجة بسبب ذلك؛ فقد منحت النشطاء وأصحاب الأجندات أداة للضغط عليها، وأهملت من لا يتعاطون مع مواقع التواصل تماما، وهؤلاء قطاع واسع، له متطلبات وأهداف وطموحات تختلف عن متطلبات وأهداف وطموحات نشطاء السوشيال ميديا.

ويلاحظ مواطنون في مصر أن ما يعرف بـ”الشعب الافتراضي” بات هو الشعب الحقيقي، وإذا أراد الناشطون فيه تحويل أزمة صغيرة إلى ظاهرة أو تقزيمها يمكنهم القيام بذلك بسهولة، فحجم المتابعة يتصاعد مع زيادة ردود الفعل التي تأتي من الحكومة بعد تكرار تجاوبها مع ما يثار من أزمات، وأصبح لسان حال البعض يقول: إذا أردت حل مشكلة وإجبار الحكومة على التعامل معها فورا اطرحها وضخّمها على السوشيال ميديا، فمع تراجع دور الإعلام التقليدي تحول الإعلام البديل، ممثلا في ما يسمى بصحافة المواطن ومواقع التواصل، إلى وسيلة ضغط وصلت حد الابتزاز.

ويزداد الشعب الافتراضي انتشارا وتغولا وتأثيرا ونفوذا. وهي مشكلة قد تكون موجودة في عدة دول باتت السوشيال ميديا رقما معتبرا فيها، ما يفسر انتباه بعض الدول الكبرى مبكرا للسيطرة على هذه الأداة، وقيام أخرى باختراع أدواتها الخاصة الناعمة، لأنها تؤدي في بعض الأوقات دورا خشنا.

والقول إن مواقع التواصل تقاس من خلالها توجهات الرأي العام موقف تجاوزته الأحداث، لأن مهمتها الأشد خطورة تكمن في توجيهه نحو قضايا وترك أخرى، وهي مهمة تستخدمها حكومات عندما تريد شغل شعوبها عن ملفات حيوية، وجذبها إلى ملفات أقل أهمية لتبعد عن رأسها صداعا سياسيا أو تخفّف عنها ضغوط أزمات معينة.

◄ من يتابع السوشيال ميديا في مصر هذه الأيام يخرج بانطباعات متباينة، لأن الشعب الافتراضي الذي ينشط عليها يعبر عن شريحة صغيرة، ولا يعبر عن الشريحة الكبيرة من المصريين

يشعر من هم خارج الشعب الافتراضي بالغبن مرتين؛ مرة لأن همومهم لا يتم طرحها بالجدية الكافية، فالتشويش واللغط والإثارة تستحوذ على اهتمامات الحكومات وتجبرها على الاشتباك معها، ومرة لأن تسليط الضوء على القضايا التي يطرحها الشعب الافتراضي، مهما كانت حيويتها، يفضي إلى عدم الاكتراث بغيرها، مهما كانت جديته.

تأتي المشكلة من أن الشعب المصري الافتراضي ينمو، ويملك مغريات مادية ومعنوية، ناهيك عن السياسية التي تظهر في المهام التي يقوم بها البعض لتضخيم وتشويه وتقزيم رؤية الآخر، والمعركة الخفية التي تنشب بين أصحاب الرؤى المتعارضة تكشف عن الخطورة التي ينطوي عليها التركيز فقط على الافتراضيين، والذين قد يعبرون عن شعوب حقيقية، لها تطلعات وطموحات وأحلام.

ويتم صرف الأنظار عنهم لصالح المتنطعين والمتسلقين والانتهازيين، وتقديم الأمر على أن الفريق الأخير هو الشعب الحقيقي على السوشيال ميديا، ما يعني أن المهمة النبيلة (إن وجدت) سوف يتم التقليل منها في المستقبل، لأن الافتراضيين يجري وضع حسناتهم وسيئاتهم في كفة واحدة، ثم تتلاشى المسافة بينهما، ويتم توظيف المساحة الرمادية حسب حاجة يحددها من ينظمون مهمة السوشيال ميديا من وراء ستار.

يتصاعد دور الشعب الافتراضي في الدول التي تتراجع فيها مساحة الحريات أو تلك التي لا يجد فيها المواطنون من يمثلونهم أو يعبرون عنهم بصدق في وسائل الإعلام، وهو ما يحدث في مصر، إذ أصبح هذا الشعب أكثر نشاطا عندما وجد عزوفا عن تناول مشاكله، واتجاها نحو تقديم الأوضاع بصورة لا تعكس المعاناة اليومية، فقرر تقديمها عبر أدوات تتجاوز كل سقف سياسي تريده الحكومة.

8