الشحن البحري.. صناعة منسية لا حياة من دونها

عالم كثير المخاطر يهدّد قوت البشر وسياسات الحكومات.
الثلاثاء 2021/04/06
عالم كثير المخاطر نعتمد عليه جميعا

سلّطت أزمة جنوح سفينة “إيفر غيفن” طيلة ستة أيام في قناة السويس الأضواء على قطاع الشحن البحري الذي لا يزال يعمل وفق طرق تقليدية لا تواكب التطورات التكنولوجية، وكشفت مدى ارتباط الإمدادات العالمية بحركة السفن، لكنها أنذرت أيضا بمخاطر أكبر في حال اختراق السفن للمياه الإقليمية ونبهت إلى المشكلات التي قد تعترض قنوات النقل البحري العالمي بعد أن صارت السفن ذات أحجام أكبر.

واشنطن – نجح تعويم سفينة الحاويات الضخمة “إيفرغيفن” العالقة في قناة السويس، لكن توقّف النقل هناك لمدة أسبوع فتح أعين الجمهور في جميع أنحاء العالم على هشاشة الشحن العالمي الذي يعتمد المليارات من الأشخاص عليه لكسب عيشهم.

ويشمل الشحن كل شيء، من البرتقال إلى الآلات إلى عمال الموانئ والبرامج المعقدة التي تنظم كل خطوة. لكن الجمهور يتجاهل العديد من نقاط الضعف حتى تحدث مشكلة ما.

وفي العام 1967 أغلق الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر خليج العقبة أمام الشحن الإسرائيلي، وهي خطوة ساهمت في إشعال حرب الأيام الستة. وعلى ضوء ذلك تتساءل إليزابيث براو الزميلة في معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة، ماذا سيحصل لو توقفت الصين أو الفلبين أو إندونيسيا أو روسيا، أغلب المتحكمين في هذا القطاع، عن إمداد العالم بالبحّارة؟

تاريخ القطاع

سايمون لوكوود: الكثير من الحروب على سلسلة التوريد مستمرة بالوكالة
سايمون لوكوود: الكثير من الحروب على سلسلة التوريد مستمرة بالوكالة

تذكّر الحادثة الأخيرة بأن العديد من الحوادث المؤسفة الأخرى يمكن أن تعطل الشحن العالمي وأبرزها التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى، حين نفذت البحرية الملكية البريطانية حصارا على الشحن المتجه إلى ألمانيا مما تسبب في مجاعة.

وفي العام 1975 كان متوسط 26.6 سفينة تشق طريقها عبر قناة السويس كل يوم. وبحلول سنة 2019 تضاعف هذا الرقم تقريبا ليصل إلى 51.7 سفينة في اليوم.

وبحلول 2019 جاءت السفن محملة بالمزيد من المنتوجات وكل شيء تحتاج إليه الشركات العالمية والمستهلكون كل يوم، أي ما متوسطه 3307 أطنان يوميا مقارنة بـ240 طنا في 1975.

وقد تطورت سفن الحاويات مع حمولتها، وتعد “إيفر غيفن” واحدة من أكبر سفن الحاويات في العالم وكانت عالقة في القناة وهي محملة بالكامل وعلى متنها 20 ألف حاوية شحن من البضائع.

ويقول كورماك ماك غاري المحلل البحري في شركة “كونترول ريسكس” وهي شركة عالمية للاستشارات في مجال المخاطر إن “الانسداد في السويس ليس مفاجأة كبيرة في هذه الصناعة. لقد كنا نحذر من وضع كهذا منذ فترة طويلة لأن سفن الحاويات صارت أكبر. ولا يوجد سوى عدد قليل من الموانئ في العالم التي يمكنها استقبال سفينة مثل ‘إيفرغيفن'”.

وتابع أنه “كلما كانت السفن أكبر كلما زادت المخاطر. في شحن الحاويات تبدو الهوامش ضيقة وتكلفة الشحن هائلة، مما يجعل اعتماد سفن أكبر أمرا منطقيا للشركة. وقبل عشر سنوات كانت أكبر السفن تحمل 10 آلاف حاوية. الآن توجد سفن تحمل أكثر من 20 ألفا. إنها مسيرة لا تتوقف”.

ويرى بيتر ساند كبير محللي الشحن البحري في شركة بيمكو، وهي أكبر هيئة تجارية في العالم لصناعة الشحن البحري، أن حجم سفن الحاويات قد ينمو إلى 24 ألف وحدة مكافئة لعشرين قدما.

ويُذكر أن نحو 12 في المئة من حركة الشحن العالمية تمر عبر قناة السويس. ويمثل الشحن البحري بدوره 80 في المئة من تجارة البضائع العالمية.

 وإذا علقت سفينة في القناة فسوف تعلق 51.7 سفينة في المتوسط ​​كل يوم تبقى هناك أو سيتعين عليها القيام برحلة أطول بكثير حول رأس الرجاء الصالح. وهذا بالضبط ما حدث في مصر.

وخلال الوقت الذي أعيد فيه تعويم السفينة كانت 372 سفينة تحمل حمولات تزيد عن 10 آلاف حاوية (بالإضافة إلى سفن إضافية أصغر) تنتظر الإبحار عبر القناة، في حين أن بعضها بما في ذلك سفينة “إتش.إم.إم دبلن” الكبيرة قررت الإبحار باتجاه جنوب أفريقيا.

إليزابيث براو: على صناع القرار النظر إلى ما وراء قناة السويس الضيقة
إليزابيث براو: على صناع القرار النظر إلى ما وراء قناة السويس الضيقة

حروب بالوكالة

جلب جنوح السفينة اهتمام الجمهور بالشحن العالمي، حيث انتشرت المِيمِز على الإنترنت عند نشر صورة حفارة صغيرة بجوار الناقلة الضخمة التي تقطعت بها السبل.

وترى إليزابيث براو إنه بعد أن نجح المسؤولون المصريون والخبراء الأجانب في تخليص السفينة التي يبلغ طولها 400 متر والمتجهة إلى روتردام، فإن على صناع القرار والمواطنين العاديين النظر إلى ما وراء القناة الضيقة التي تربط البحر الأحمر والبحر المتوسط لأن عالم الشحن الذي نعتمد عليه جميعا ينطوي على الكثير من المخاطر الأخرى.

ويقول سايمون لوكوود خبير الشحن لدى شركة وساطة التأمين العالمية والاستشارات ويليس تاورز واتسون إن الشحن صناعة منسية. والآن تحظى قناة السويس باهتمام كبير إلا أن هناك حوادث في المياه الأخرى والتي لا يهتم بها معظم الناس.

ويشير إلى أن الكثير من الحروب بالوكالة تُخاض ضدّ السفن كأهداف، وهي في الأساس هجمات مستمرة على سلسلة التوريد. فعلى سبيل المثال هناك زيادة هائلة في الهجمات على الشحن في خليج غينيا.

وفي الخليج قيل إن حاملة سيارات إسرائيلية أصيبت بصاروخ قبل أسبوعين. كما انجرفت السفينة الإسرائيلية المتجهة من تنزانيا إلى الهند لعدة ساعات قبل أن تتمكن من مواصلة رحلتها.

وفي فبراير انفجرت سفينة حاويات إسرائيلية في خليج عمان. وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن إيران كانت وراء الهجوم الأول، واتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شخصيا إيران في الهجوم الثاني. وكما كان متوقعا نفت طهران الاتهامات الموجهة إليها.

انتحال الإشارات

Thumbnail

تقول إليزابيث براو في تقرير لها بمجلة فورين بوليسي الأميركية إنّ قطاع الشحن يتعرض إلى انتحال إشارات نظام التموضع العالمي. ففي 2017 أبلغت أكثر من 20 سفينة في البحر الأسود فجأة عن مشاكل في إشارات نظام تحديد المواقع العالمي الذي يفقد موضعه أحيانا أو يعرض موقعا غير دقيق.

وعلى سبيل المثال حدد نظام تحديد المواقع العالمي موقعًا داخليا بالقرب من مطار غيلينجيك، لكن السفينة كانت على بعد يتجاوز 25 ميلا بحريا منها. فمن كان يتدخل؟ بالنظر إلى حدوث الانتحال في البحر الأسود بدت روسيا هي الجاني المحتمل، ومع ذلك لم تقل شيئا.

وتتساءل براو “لماذا تعبث روسيا بالسفن في البحر الأسود، بصرف النظر عن فرصة ممارسة الضغط على دولة أخرى؟ ربما كانت تختبر شكلاً جديدا من أشكال الحرب الإلكترونية”.

وتوضحّ أن انتحال إشارات نظام التموضع العالمي للسفن البحرية والمدنية يحدث في كثير من الأحيان. وكان أحد الحوادث الأخيرة التي أدرجها مركز الملاحة التابع لخفر السواحل الأميركي، والذي يستجيب لمثل هذه الحوادث، حدث بين مالطا وصقلية في 10 فبراير. وقبل أيام فقدت سفينة أخرى في البحر الأبيض المتوسط ​​إشارة نظام تحديد المواقع العالمي تماما. وقبل ذلك أفادت سفينة أخرى مبحرة بين إسبانيا ومصر أن إشارة نظام تحديد المواقع العالمي كانت مشوشة.

لكن روري هوبكرافت وهو باحث في التهديدات الإلكترونية البحرية في جامعة بليموث يقول إن انتحال نظام تحديد المواقع العالمي لن يبعد السفن عن مسارها تماما، فالطاقم يعرف كيفية التنقل باستخدام الأدوات التقليدية. لكن الخطر الأكبر يكمن في تدخل ملاحي أكثر دقة حيث ينتهي الأمر بالسفينة أبعد بدرجة واحدة تدخلها إلى المياه الإقليمية التابعة لدولة أخرى. مما يمكّن الدولة المعادية بعد ذلك من استخدام هذا “الاعتداء” لابتزاز البلد الذي أرسل السفينة. ويبدو أن هذا ما حدث في 2019 عندما استولى الحرس الثوري الإيراني على ناقلة النفط ستينا إمبيرو في مضيق هرمز. بعد ذلك أثبتت وحدة الاستخبارات في قائمة لويدز أن ناقلة النفط المملوكة للسويد والتي ترفع علم المملكة المتحدة قد تلقت إشارات نظام تحديد تلقائي أرسلتها إلى المياه الإيرانية.

ومن الآمن أن نقول إن معظم المستهلكين لا ينتبهون إلى مصير السفن والبحارة المتأثرين بمثل هذه الحيل. ومن الآمن أيضا أن نقول إنهم لا يتابعون أخبار تأمين السفن. فبعد حادثة ستينا إمبيرو ارتفعت أسعار التأمين على السفن المارة عبر مضيق هرمز، واتضح أن معظم السفن التي كانت عالقة في طابور قناة السويس كانت تفتقر إلى تأمين التأخير. ويجب أن يهتم المستهلكون بكل من انتحال نظام تحديد المواقع العالمي والتأمين على الشحن لأن الأمر يؤثر عليهم وعلى سلعهم.

وقد تأتي بعض الحوادث التي تتسبب في حدوث تأخيرات وارتفاعات في التأمين بفوائد لتجعلنا نولي اهتماما لقطاع الشحن الهائل الذي يزودنا بالبضائع على مدار الساعة.

تكلفة منخفضة

Thumbnail

اليوم توظف السفن العالمية ما يقرب من 1.7 مليون بحار من الصين والفلبين وإندونيسيا وروسيا وأوكرانيا. كما تبرز الهند بصفتها دولة منشأ رئيسية أخرى.

ويذكر أن السفينة “إيفرغيفن” مملوكة لشركة “شوي كيسن” اليابانية ومسجلة في بنما، وتستأجرها شركة “إيفرغرين” التايوانية ومؤمن عليها في نادي التأمين في لندن. وكان طاقمها من الهنود مثل معظم طاقم ستينا إمبيرو.

ويقول ماك غاري إنهم على درجة عالية من التعليم وغالبا ما يأتون من أوروبا. وينطوي عمل البحار على الجهد والغياب الطويل والراتب المتواضع. وبالطبع تمتع هذه الرواتب المنخفضة المستهلكين الذين يشحنون بضائعهم بثمن منخفض في جميع أنحاء العالم.

وفي العام 2017 تلقى العالم تحذيرا مبكرا لما قد تبدو عليه الحياة دون شحن عالمي على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع حين أسقط هجوم نوت بيتيا الإلكتروني الروسي ضد أوكرانيا سلسلة من الشركات العملاقة بما في ذلك شركة ميرسك سيلاند الدنماركية التي تعد أكبر شركة شحن حاويات في العالم. وقد استغرقت الشركة التي تشغل ما يقرب من 600 سفينة شحن عدة أيام لتنشط سفنها مرة أخرى.

روري هوبكرافت: اختراق السفن للمياه الإقليمية هو الخطر الأكبر
روري هوبكرافت: اختراق السفن للمياه الإقليمية هو الخطر الأكبر

وتقول براو إن الكرملين إذا كان يريد حقا إحداث فوضى في العالم، فيمكنه أمر البحارة الروس بعدم الحضور إلى العمل. ويمكن للصين أن تأمر كل سفنها وطواقمها بالبقاء في خليجها. أو يمكن لأي من البلدين انتحال نظام تحديد المواقع العالمي لضرب سفن الشحن المختلفة مما يتسبب في شرودها إلى مياه البلدان المعادية.

وتطلّب إطلاق سراح ستينا إمبيرو تحركات دبلوماسية كفؤة. ولنتخيل المآثر الدبلوماسية التي ستكون مطلوبة لإطلاق عدة سفن محتجزة في نفس الوقت لدى عدد من الحكومات المعادية. أما في حال تغيب البحارة فإن الشركات والمستهلكين في العالم سيواجهون الأمر بمفردهم.

ويشير ماك غاري إلى أن “قناة السويس ونفق المانش ومضيق ملقا كلها معرضة للاضطراب الذي يمكنه إيقاف الشحن العالمي. من الغريب أن المعادين لم يستهدفوها بعد. يبدو أنهم يعانون من عمى البحر أيضا”.

وتقول براو إن “عمى البحر مرض يصيب الرجل الغني ولحسن الحظ يمكن علاجه. لكن هذا لا يعني أنه يجب علينا جميعا تتبع السفن العابرة للمحيطات كل يوم، ولكن هذا يعني أنه علينا أن نتعلم أساسيات الخدمات اللوجستية العالمية”، فيما يقول لوكوود إن “الجميع يريد أن تصل طلباتهم من أمازون بسرعة ويغضبون عندما تتأخر. بدلا من الانزعاج، ضع في اعتبارك حياة قطاع قائمة على سلسة من الملايين من العمال الذين يشتغلون على مدار الساعة معتمدين تكنولوجيا وآلات عجيبة حتى يحدث اضطراب بسيط”.

6