الشاعر المعتزل

الثلاثاء 2017/03/28

أن يعتزل الشاعر عن هموم عصره ووطنه فهذا أمر مذموم ولا شك، ولا ينصب حديثنا على الشعر السياسي، فمنه الكثير والحديث عنه كثير. فلدينا في شعرنا العربي من المتنبي إلى محمود درويش وما بينهما من شعراء مئات النصوص في الشعر السياسي. والشعر السياسي في حقيقة الأمر موقف سياسي وكل موقف انحياز وانتماء.

وبمعزل عن أحكام النقاد في شعرية شعر السياسة فإنه دال على وعي الشاعر السياسي بمعزل عن الجمالي.

وليس من الضرورة بمكان أن يكتب الشاعر قصائد سياسية مباشرة إذا كان به أنفة من السياسة، ولكنه قادر على أن يكتب نصاً نثرياً ليخبر الناس عن موقفه، أو التقاط عذابات الناس وتحويلها إلى شعر تراجيدي كلي.

كتبت هذه المقدمة لأطرح السؤال: ماذا يعني أن يعتزل الشاعر في مرحلة من الصراع بين شرٍ واضح لا لبس فيه وخير ساطع لا شك فيه وينأى بنفسه عن الدخول طرفاً في هذا الصراع وهو في وضع قادر على اتخاذ الموقف دون خطر؟ فالصراع بين العبودية والحرية لا يترك لشاعر مهما كان قليل الموهبة خياراً في اعتزال الموقف.

وما كنت أحسب الآن في لحظتنا الراهنة وتراجيديا الكفاح في أعلى مراحلها أن أجد شاعراً ينتمي إلى وطن يتألم من مخاض ولادة الحياة الجديدة لو لم أدخل بالمصادفة المحضة إلى صفحته في شبكة التواصل الاجتماعي لأجده في عالم من الابتذال واللغو نثراً وشعراً، دون أي نص فيه نوع من الإحساس بآلام الناس وآمالهم.

ماذا يعني الاعتزال في هذه الحال ؟

يتخذ كل من أدركته حرفة الكتابة في اللحظات المصيرية من الحياة موقفاً منها. بل قل إن من يعي أهمية ذاته وقوة حضوره لا بد أن يكون له موقف بمعزل عن طبيعة هذا الموقف أو ذاك؛ إذ يمكن أن تجد شاعراً كنتَ تحسبه نصير الحرية والتحرر وقد اتخذ موقفاً مؤيداً للمستبد وجرائمه، لكنه في نهاية الأمر، وإن كان موقفه يعود بالضرر على معركة الحرية، عبر بكل وضوح عن موقفه، واحتل مكانه في حظيرة الشر.

أعود إلى السؤال: ماذا يعني الاعتزال في خضم معارك المصير؟ وماذا يعني الشاعر المعتزل أيضاً؟

عرفت العرب اعتزال نخبة من مثقفي الإسلام الأول عن الدخول في الصراع بين علي ومعاوية على السلطة لاعتقادهم بأنه صراع غير محمود والدخول فيه واتخاذ الموقف منه لا يليقان بهم.

ولكن هذا النمط من الاعتزال عائد إلى موقف أخلاقي يتعلق بقضية السلطة.

أما اعتزال الشاعر عن التراجيديا في وطنه فهو في حقيقته انحياز حقيقي إلى الظالم وإلى الشر لكنه انحياز مشفوع بالخجل من إظهاره. والخجل من إظهار الموقف يعني أن المعتزل هذا يدرك أن الحق مع نقيضه، ويدرك أن موقفه المستتر يعود إلى مصلحته أو هويته الضيقة، ولهذا فهو يميل إلى التستر وراء اللامبالاة اعتقاداً منه بأنه قادر على خداع الناس والجمهور، واعتقاداً منه بأن لامبالاته المصطنعة تقيه شر الظهور.

ولكن هيهات أن ينجح في ذلك، فالجمهور، في حالات الكفاح التحرري، يسأل أول ما يسأل عن موقف المفكر والشاعر، إذ ما زال هذان النمطان من النخبة يحوزان مكانة خاصة لدى الناس.

وحين يعلم المنتمون إلى التحرر بأن صاحبهم الشاعر يلوذ بالصمت يدركون من فورهم أنه خانهم، كما يدرك أصحابه أن اعتزاله وهو في مكان قادر على موقف مناقض لهم هو انتماء إليهم بالضرورة.

غير أن هناك نمطا من الاعتزال بدافع الخوف على الحياة، حياة المعتزل وحياة من يمتّون إليه بصلة الرحم ويعيش بين الثعابين. فهذا موقف لا يلام عليه صاحبه أبداً.

كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات

14