الشاشية صمدت أمام الاستعمار ولم تصمد بعد تغير الذوق العام في اللباس

الشاشيّة هي عبارة عن طاقية مستديرة الشكل تصنع من الصوف وتعتبر من المكوّنات الرئيسية للباس الرجال التقليدي، ويتألّف في تونس من الجبّة والبرنس و”البلغة” (خفّان مصنوعان من الجلد)، وفي ليبيا من الحولي الأبيض والسروال العربي والفرملة السوداء. وتصنع الشاشيّة في تونس منذ العصور الوسطى من خيوط صوف الغنم الناعم التي يتّم استيرادها من فرنسا ويشرف عليها شواشون ورثوا هذه الحرفة أبا عن جدّ.
الاثنين 2015/11/09
الشاشية التقليدية بدأت تندثر من الحياة اليومية لذلك نقص تعاطيها كصناعة تقليدية

تتميّز الشاشيّة الليبيّة عن التونسية الحمراء بلونها الأسود الداكن وبالنتوء الذي يعلوها من الوسط في ما يقارب السنتمترين. ولا يتم استعمال صوف الأغنام التونسية في صنعها لأنه ليس بالنّعومة الكافية نتيجة العوامل المناخية التي تتميّز بهبوب الرياح الرمليّة خاصة في الوسط والجنوب التي تسمّى بالغربي التي تصيّر صوف الأغنام مجعّدا وغير صالح لصناعة الشاشيّة. وتتطلب صناعة الشاشيّة الواحدة ما بين 100 و150 غراما من الصوف حسب حجمها.

هذا وقد دخلت الشاشيّة مع الفتح الإسلامي إلى تونس أي مع دخول عقبة بن نافع وجنده مدينة القيروان سنة 670 ميلاديّ، وصارت تعرف باسم “الشاشيّة القيروانية”. ولكن يعود إلى الأندلسيين الفضل في تطويرها عندما لجأ إليها الموريسكيون أي مسلمو الأندلس الذين طردهم ملك الأسبان فيليب الثالث سنة 1609 واستوطنوا تونس كما الجزائر والمغرب وأحيوا صناعة الشاشيّة فيها.

وقد ظلّت الشاشيّة لعقود طويلة رمزا للهويّة الوطنيّة في ليبيا وتونس، غير أنّ عزوف الرجال عنها بدأ تدريجيّا منذ المنتصف الأوّل من القرن الماضي مع وقوع البلدين تحت نير الاستعمار، إلّا أنّها استطاعت أن تصمد أمام موجة فرنجة اللباس لدى الفئات المتعلّمة والمثقفة وظلّ أغلب الرجال في هذه الفترة يرتدونها حتّى أنّ الشاب أو الرجل الذي يتجرّأ على نزعها حتّى وإن حافظ على الجبّة أو البرنس أو الحولي والبلغة الحذاء التقليدي المصاحبين في العادة لها في هيئة واحدة وزيّ واحد يعتبر وكأنّه قد حاد عن طريق الجماعة وتنكّر لهويّته الوطنيّة و”طورن” بالتعبير العامي التونسي، أي انسلخ عن جلدته وبدأ يتشبّه بالمستعمرين الأوروبيين تنطبق عليه ملاحظة ابن خلدون “المغلوب مولع بالتطبّع بأخلاق الغالب”.

الشاشية مادة في طريقها إلى الاندثار ولكن في مستوى الرمز ستظل على الأرجح موجودة على الدوام

في حين أنّ الجماعة ترنو إلى أن تكون الغلبة في نهاية المطاف لها وذلك بطرد المستعمر من أراضيها ولن يتمّ لها ذلك إلّا بالتمسّك بهويّتها والذود عنها. هذه الهويّة التي يشكّل اللباس بصفة عامة أحد ملامحها الأساسيّة ولباس الرأس على وجه الخصوص أهمّ علامة هويّة فيه باعتباره أوّل ما يظهر من الجسم وأعلاه ومنه اشتقّت كلّ معاني الرئاسة والقيادة. ولعلّ لهذا السبب كانت الجماعة تتسامح نسبيّا في العزوف عن الجبّة والبرنس ولكنّها لم تكن تتسامح في نزع الشاشيّة التي كان يعتبر التخلّي عنها مجلبة للعار لصاحبها وأهله وعشيرته.

غير أنّ جلاء الاستعمار وتأسيس الدولة الوطنيّة لم يمنعا من فرنجة الذوق واللباس في القطرين تدريجيّا وبدأت الشاشيّة تغيب شيئا فشيئا عن رؤوس الرجال ابتداء من سبعينات القرن الماضي حتّى أنّه يمكن القول إنّها في طريقها للانقراض وبقيت حكرا على قلّة منهم في البلدين من المسنّين أو يضعها البعض مع غيرها من قطع اللباس التقليدي الأخرى كالجبّة أو الحولي: اللحاف الرجالي الأبيض من الصوف في الأعياد الدينيّة ولربّما في بعض الاحتفالات العامة حيث يعمد بعض السياسيين إلى لباسها استمالة للعامة وإيماء بتمسّكه بالثوابت الوطنيّة بحثا عمّا يمدّه بشرعية الحكم وسياسة الشأن العام.

ويجمع المهنيون على أنه لولا تصدير الشاشيّة السوداء إلى الدول الأفريقية: مالي ونيجر وخاصة نيجيريا لما بقي في سوق الشواشين معلّم شاشيّة واحد، وتشير أرقام الديوان التونسي للصناعات التقليدية إلى أن الإنتاج السنوي لحرفيي الشاشيّة لا يتعدى 50 طنا. وتعادل هذه الكميّة نحو 400 ألف شاشيّة تباع منها نحو 20 ألفا في تونس والبقية تصدّر نحو نيجيريا التي تستقبل وحدها 88 بالمئة من صادرات الشاشيّة التونسية، والبقية نحو ليبيا والنيجر.

جلاء الاستعمار لم يوقف فرنجة الذوق واللباس، وبدأت الشاشية تغيب ابتداء من سبعينات القرن الماضي

ورغم المحاولات لإنقاذ الشاشيّة كغيرها من الملابس التقليديّة من الاندثار بتنظيم يوم وطني في تونس للباس التقليدي يشجّع فيه على ارتداء اللباس التقليدي بما في ذلك الشاشيّة من المسؤولين والموظفين في الدولة وفي المدارس والإدارات العامة، وسعى أصحاب المهنة من الشواشين بوحي من مصمّمي الأزياء ومن المختصّين في الأسلوبية وجماليّة اللباس من خرّيجي المعاهد الحديثة في الموضة إلى خرق نمطيّة اللون الأحمر القرمزي للشاشيّة الذي عرفت به دون سواه في تونس على مرّ الأزمان، والعدول عنه وتجاوزه إلى ألوان أخرى مثل الأصفر والأزرق والرمادي وما توسّطها من الألوان الفاتحة والداكنة بغية استمالة الشباب.

ورغم إحياء الشاشيّة في ألوان جديدة، فإنّ العزوف عنها ما انفكّ يتعاظم يوما بعد يوم رغم أنّ إخراجها في ألوان جديدة قد عرف بعض النجاح مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجديد، ولكنّ هذه التجربة والمحاولة الإحيائيّة سرعان ما اعتراها الفشل ولم تتمكّن الشاشيّة حتّى في ألوانها الجديدة من مزاحمة الطرابيش والقبعات المعولمة والمكتسحة للأذواق والأسواق. غير أنّ عجز الشاشيّة التي يصطلح عليها شعبيّا في تونس بالكبوس -لكونها تكبس الرأس وتلفّه- عن الاستمراريّة وترنّحها أمام ضربات الزمن، لم يحل دونها والتشبّث بالبقاء في مستوى الرمز وأن تجد ملاذا آمنا يمكنها من الديمومة في المتخيّل الجماعي والأمثال الشعبية، بحيث يقال تعبيرا عن صداقة شخصين يتلازمان تلازم المرء لظلّه “رأسان في شاشيّة” ولمن يشعر بالأنفة وعزّة النفس والنجاح رغم كيد الكائدين “معنقر الكبوس” ومن يخاتل الناس “يحطّ شاشيّة هذا على رأس الآخر”. الشاشيّة مادة في طريقها إلى الاندثار ولكن في مستوى الرمز ستظلّ على الأرجح، موجودة على الدوام.

12