الشارع اللبناني ينتفض رغم المحاذير
ها قد انفجر الشارع اللبناني في وجه ائتلاف المافيات الغاصبة للسلطة، رغم كل المحاذير. ويستمر تصاعد الاحتجاج رغم توسع القوى الأمنية في ممارسة القمع لتخويف الناس من النزول إلى الشارع، ورغم محاولات اختراق الحراك وتشويهه من قبل أزلام القوى النافذة.
تتبادل القوى المسيطرة على رمي الاتهامات بحق ناشطي الحراك. فقوى 14 آذار، تتخوف من استقالة الحكومة باعتبار ذلك يتيح لقوى 8 آذار، وبالأخص حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون، أن تملأ الفراغ بإحكام سطوتها على البلاد في ظل الفراغ الكامل في المؤسسات، وبالتالي فرض ما يلائمها من حلول تجعل البلاد تحت سيطرتها منفردة، فتتهم الحراك بالتواطؤ على إسقاط الحكومة، وتمهيد الطريق لتحقيق غايات حزب الله وحلفائه، وتكيل الاتهامات لبعض الناشطين.
أما قوى 8 آذار وبالأخص حزب الله الذي يخشى انفجار قواعده الشعبية خصوصا بعد الخسائر التي يحصدها في حربه في سوريا، فتعمل على تشويه الحراك باعتباره موجها ضد المقاومة، وتتهم عددا من الناشطين بالعمل لمصلحة المشروع الأميركي. ومن يتابع تعليقات الجيش الإلكتروني لحزب الله في صفحات التواصل الاجتماعي المهتمة بالحراك الشعبي في لبنان يمكنه ملاحظة كم الاستفزاز الذي أصابه نتيجة عدم قدرته على حرف الحراك عن شعاراته الرئيسية التي تعتبر جميع القوى التي تحكم البلاد منذ اتفاق الطائف حتى اليوم متورطة في القضايا الرئيسية التي يعاني منها الشعب اللبناني، وبالأخص الفساد ونهب المال العام وانهيار الخدمات العامة.
أما حركة أمل، بزعامة رئيس مجلس النواب نبيه بري، فتمارس حيال هذا الحراك ما اعتادت عليه في مناسبات مماثلة طيلة السنوات الماضية. وهنا أذكر بما قامت به عناصر من أمل في فبراير 2011 حين كان ناشطون يوزعون الدعوات لحملة إسقاط النظام الطائفي في بيروت. فقد اختطفوا بعض الناشطين وعنفوهم وهددوهم إن استمروا في توزيع المنشورات أو في حملتهم على النظام وقوى السلطة. أما حيال تحرك هيئة التنسيق النقابية فكان دور عناصر أمل بث الإشاعات والمعلومات الكاذبة للتشويش على التحرك في مواعيده وفي أولوياته وتفاصيل مطالباته. واليوم، تخترق عناصر من أمل برفقة مجموعات هامشية التظاهرات لتعمد الإساءة إليها، والتهجم على القوى الأمنية التي تلقت الأوامر لمواجهة المتظاهرين بهذه الحجة. وكأن تنسيقا قائما بين من يحرك هذه العناصر وبين من يعطي الأوامر للقوى الأمنية يقوم على بدء الاستفزاز من هنا، وإطلاق عملية القمع من هناك لفض التظاهرة وإرهاب المشاركين فيها.
ورغم كل ذلك، فإن الحراك الشعبي يتواصل ويتوسع ليشمل مناطق مختلفة ومتعددة، إضافة إلى العاصمة بيروت، تعبيرا عن مدى السخط الذي يعتري المواطنين نتيجة تفاقم الوضع المعيشي وتعاظم الفساد والنهب للمال العام الذي بات يمارس بكل وقاحة وعلى رؤوس الأشهاد.
صحيح أن قضية النفايات الصلبة وتراكمها في الساحات والشوارع كانت الشرارة التي أطلقت الحراك، ولكن ما تراكم من ضغوط وقهر وانهيار شامل للحياة الاقتصادية الاجتماعية كان الوقود الذي جعل هذه الشرارة تشعل الشارع وتحاصر قوى السلطة التي لطالما نامت على حرير الانقسامات الطائفية والتوترات المذهبية التي تحصنت بها وحاصرت بها اللبنانيين.
أمام هذا التطور المتنامي برزت جملة نقاشات تتعلق بالنتائج المترتبة على تطور حركة الشارع واحتمالات رفع سقف المطالب المطروحة، وهنا لابد من التأكيد على الملاحظات التالية:
إن مقاربة التوقعات السياسية لهذا الحراك من وجهة نظر أطراف السلطة تختلف تماما عن مقاربة هذه التوقعات من قبل الشارع نفسه. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مكاسب وخسائر لهذا الطرف السلطوي أو ذاك تترتب على هذا الحراك.
التشكيك بهذا الحراك لم يصدر عن طرف واحد من طرفي السلطة، بل جاء من قبل الطرفين، كل يحاول اتهامه بخدمة الطرف المقابل. هذه الاتهامات ليست إلا سلاحا سلطويا واحدا بوجهيْن يهدف إلى تشويه الحراك ولجم اندفاع الجماهير.
إن قوى السلطة التي تمتلك كل الأسلحة من أدوات قمع ووسائل إعلام ومنظّرين متفرغين لخدمتها، و”شبيحة” يمكن أن يُطلقوا في قلب الحراك لتخريبه، لن تألو جهدا في تسخير كل تلك الأسلحة لإجهاض هذا الحراك في مهده.
إن وجود ناشطين “متحمسين” ضمن المظاهرات، أو حتى “مندسين” مفترضين فيها، لن يكون إلا بإيعاز قوى السلطة نفسها، أو إحداها، وبالتنسيق غير المعلن فيما بينها. وهذا بحد ذاته تبرير أقبح من ذنب لقمع المتظاهرين أو فرض حظر على التظاهر.
ورغم أن الحراك لم يصل إلى مستوى يهدد فعلا النظام المافيوي بالسقوط، إذ أن لهذا النظام قوة احتياط مسلحة من خارجه (حزب الله) تحميه وهي لا تزال قادرة على منع إسقاطه، إلا أنه، ولاختراقه الجدران الطائفية والمذهبية، أقلق راحة القوى المسيطرة ودفعها إلى تشغيل محركات حكومتها المتوقفة، فكانت دعوة إلى انعقاد مجلسها، ثم دعوة إلى تقديم موعد هذه الجلسة، والتي لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة بالطبع، فكان على الشارع أن يواجه القمع وأن يستمر بتحركاته التي لن تتوقف قبل أن يلمس تغييرا مفيدا في سلوك السلطة أو أن يراها تتداعى.
فليس للشارع، الذي انتفض في وجه الجميع، وأطلق حكمه على الجميع، أن يضع تضحياته في خدمة قوى السلطة، أو أحد طرفيها المتحالفين ضده. وهنا تبرز جسامة المسؤولية التي يتنكبها الناشطون الذين يقودون هذا الحراك، القادمون من خلفيات سياسية وأيديولوجية متباينة، والتي تفرض عليهم تناسي تلك الخلفيات وقتيا، والعمل على وضع تنظيم يحمي هذا الحراك من جهة، وعلى تحديد أهداف واضحة تتسم بالواقعية والجدية يمكن فرضها على القوى المسيطرة، ثم البناء عليها.
كاتب لبناني