السياسي ورجل الأعمال: أيهما ينتصر في الصراع على رئاسة الحكومة الليبية؟

تشبث الدبيبة برفض تسليم السلطة تقابله براغماتية حاسمة لباشاغا.
الأربعاء 2022/02/16
الغموض يلف مصير العملية السياسية في ليبيا

بالرغم من أن جل المعطيات تشي بأن رئيس الوزراء المكلف في ليبيا فتحي باشاغا وهو رجل سياسي ذو خلفيات عسكرية سيفوز في المعركة ضد رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة وهو رجل أعمال، إلا أن الجمود لا يزال يخيم على الصراع بين الطرفين على رئاسة الحكومة وسط تباين في المواقف الإقليمية والدولية بشأن التطورات التي شهدتها البلاد على هذا الصعيد.

تونس - يحتدم الجدل السياسي في ليبيا حول المرحلة القادمة في ظل الغموض الذي يكتنفها، وبينما يقوم رئيس الحكومة المكلف من قبل مجلس النواب فتحي باشاغا، بمشاورات تشكيل الحكومة مع مختلف الأطراف والمناطق، على أن يتقدم بتشكيله الوزاري إلى الجلسة العامة البرلمانية التي ستنعقد بطبرق خلال أقلّ من أسبوعين، يصر رئيس حكومة تصريف الأعمال عبدالحميد الدبيبة على البقاء في منصبه، ويعلن بكل وضوح أنه لن يسلم مقاليد الحكم إلا لسلطة منتخبة.

وتختلف وجهات النظر في الداخل بين داعمين لباشاغا السياسي القادم من خلفية عسكرية، وبين موالين للدبيبة وهو رجل الأعمال والمهندس المختص في إدارة المنشآت، في ظل تجاذبات واضحة بين نذر انقسام وبشائر سلام، وبين محاولات متعددة لقراءة الواقع بشكل صحيح انطلاقا من طبيعة الصراع الذي لا يزال قائما وبخاصة حول التموقعات في مفاصل النفوذ المالي والاقتصادي في واحدة من أثرى دول المنطقة.

الدبيبة يحاول إغماض عينيه على جملة من المعطيات المهمة أبرزها أن الانتخابات التي يدعو إلى تنظيمها في يونيو القادم لن تتحقق في ظل استمرار المعطيات التي أطاحت باستحقاق الرابع والعشرين من ديسمبر

ويتحدر باشاغا والدبيبة من مدينة مصراتة، الواقعة على بعد 250 كلم إلى الشرق من العاصمة طرابلس، والتي تعرف بأنها العاصمة الاقتصادية للبلاد، وتميزت خلال السنوات العشر الماضية بأنها تضم العدد الأكبر من ميليشيات ومسلحي الغرب الليبي، وتمتلك الرصيد الأكبر من مراكز القرار السياسي والمالي والاقتصادي والدبلوماسي والإداري الليبي.

ويحتكم على مرجعيات عسكرية وسياسية واستثمارية متعددة الأبعاد، حيث إنه عمل كضابط في سلاح الجو الليبي قبل أن يستقيل منه في العام 1993 لينتقل إلى تجارة الاستيراد، وعند اندلاع أحداث فبراير 2011، التحق بالمجلس العسكري رئيسا لقسم المعلومات والإحداثيات، ثم ناطقا باسم المجلس العسكري لمصراتة. وانضم إلى اللجنة الاستشارية في هيئة المصالحة الوطنية. وشغل منصب عضو بمجلس الشورى بمصراتة في العام 2012، وبذلك يعتبر واحدا من رموز “ثورة 17 فبراير”، كما عرف بأنه صاحب مواقف راديكالية في الكثير من القضايا ذات الصلة بالوضع الداخلي وبالمواقف الإقليمية والدولية.

وفي 2013 ترشَّح باشاغا لمنصب وزير الدفاع، ثم انتخب لعضوية مجلس النواب عن مدينة مصراتة في العام 2014، ولكنه قرر مقاطعة المجلس ضمن مجموعة من نواب مصراتة ليكون أحد متصدري منظومة “فجر ليبيا” التي فجرها الإخوان نتيجة فشلهم في الاستحقاق التشريعي، وفي 2015 تم ترشيحه لرئاسة مجلس الدفاع والأمن القومي بحكومة الوفاق واعتذر عن قَبول المنصب، وفي 2016، شارك في لجنة الحوار السياسي عن مجلس النواب. وفي أكتوبر 2018، قررت حكومة الوفاق تكليفه بمهام وزير الداخلية خلفا للعميد عبدالسلام عاشور، وقد دخل لاحقا في مواجهات مع رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، حيث كشف الكثير من أخطاء الحكومة، وخاض مواجهات مفتوحة مع بعض الميليشيات واتهمها بالفساد وباستغلال النفوذ والابتزاز والتآمر ضد وزارة الداخلية واختراق جهاز المخابرات واستخدامه ضد مؤسسات الدولة، كما هدد بملاحقتهم قضائيا. وخص باشاغا بالذكر ميليشيا النواصي، ودعا إلى المصالحة الوطنية ونادى بضرورة العمل على حل الميليشيات الخارجة عن القانون، وكان من أول من أعلنوا عن ترشحهم للسباق الرئاسي الذي كان مقررا للرابع والعشرين من ديسمبر الماضي.

براغماتية باشاغا

Thumbnail

وبحسب مراقبين، فإن باشاغا وإن كان قد عرف بالراديكالية في المواقف خلال السنوات الماضية، إلا أنه اتجه مؤخرا إلى البراغماتية في تعامله مع مجريات الأحداث، وذلك التحرك في إطار الواقعية السياسية بحسم الكثير من العلاقات السابقة في اتجاه إعادة قراءة الظروف والنتائج، ففي نوفمبر 2020 وبينما كانت الأمم المتحدة تدير ملتقى الحوار السياسي بتونس، زار باشاغا كلا من باريس والقاهرة اللتين كان يتهمها بدعم قوات حفتر، كما غيّر موقفه من موسكو التي كان يشن عليها الحملات الشرسة ليصبح من المنفتحين على الحوار معها، وأرسل إشارات إيجابية إلى مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، مع حملة للعلاقات العامة في العواصم الكبرى وبخاصة واشنطن ولندن، فالطيّار السابق، والسياسي الذي نجح في إدارة أعماله التجارية، يطمح إلى أن يكون فاعلا سياسيا بكثير من العقلانية في التعامل مع المعطيات الأساسية والمحيطة انطلاقا من الاستعداد للتعامل الإيجابي مع المتغيرات الداخلية والخارجية.

وفي العاشر من فبراير الجاري، وبعد وصوله إلى مطار معيتيقة بالعاصمة طرابلس قادما من مدينة طبرق، شرقي البلاد،  حيث كان مجلس النواب يجتمع لتكليفه بمهمة رئيس للحكومة، قال باشاغا، إن عمله سيركز على المصالحة بين الليبيين والمشاركة والعمل الجماعي، وأضاف أن العلاقة مع جميع دول العالم ستكون مبنية على الاحترام المتبادل والعمل المشترك والتنسيق الدائم على جميع الأصعدة، وخصوصا الصعيد الأمني، معبرا عن تطلعه للتعاون الإيجابي والعمل المشترك مع بعثة الأمم المتحدة.

بينما يرفض رجل الأعمال الإطاحة بسلطته من قبل البرلمان، سيكون على السياسي المكلف بتشكيل الحكومة أن يواجه المشكلة بكثير من الهدوء

ورحبت قيادة الجيش الوطني بقرار مجلس النواب تكليف باشاغا لتشكيل حكومة جديدة. وقالت إنّ المؤسسة العسكرية تتابع المسارات العسكرية والسياسية والاقتصادية الرامية إلى إرساء الاستقرار في البلاد.

وجاء موقف قيادة الجيش ليؤكد على وجود توافقات بين المشير حفتر وباشاغا، وعلى أن الاتصالات والمشاورات بينهما لم تنقطع خلال الفترة الماضية، حتى أنهما يتفقان على جملة من المسائل المهمة التي ستنعكس إيجابا على تشكيل الحكومة، وخاصة في ما يتعلق بحقيبة الدفاع التي كانت واحدة من نقاط الخلاف بين وزيرها رئيس حكومة تصريف الأعمال عبدالحميد الدبيبة وكلّ من المجلس الرئاسي وقيادة الجيش ومجلس النواب واللجنة العسكرية المشتركة.

كما أن مجرد فتح جسور التواصل والتشاور بين باشاغا وحفتر، يمثل منطلقا إيجابيا لحلحلة الملفات العالقة ومنها توحيد المؤسسة العسكرية، ولاسيما بعد الاجتماعات التي كانت انعقدت مؤخرا في سرت بين قيادات عسكرية من شرق وغرب البلاد، والنتائج التي توصلت إليها اللجنة العسكرية المشتركة، والمتغيرات الإقليمية، وبذلك، فإن باشاغا سيكون أول رئيس حكومة بطرابلس قادر على تنسيق المواقف مع مختلف الأطراف الليبية دون استثناء، وبدعم من القوى الفاعلة على الأرض، وهو ما عجز عنه الدبيبة الذي اختار طريق القطيعة مع قيادة الجيش في بنغازي من باب الخوف من ردود فعل الميليشيات التي يطمح إلى أن تحميه وتدعمه في مسيرة حكم يديرها بروح ومنطلق وسياسة رجل الأعمال والمستثمر المتطلع للإبقاء على كرسيه فوق الخزينة العامة للدولة.

وفي كلمة للشعب الليبي ذكّر باشاغا، بالسنوات العشر الماضية، والتي شهدت عمليات “تهجير وفقدان الأهل والأحباب وانتشار الفوضى والفساد وارتفاع أصوات الكراهية”، مشيرا إلى أن الجميع “أدرك اليوم أننا كنا مخطئين باعتقادنا بأن واحدا منا قد يلغي الآخر، أو أن واحدا منا يمتلك الحقيقة دون غيره. قيمتنا في تنوعنا ومصيرنا واحد”، وأضاف أن “التخوين والتكفير والمزايدات تهدم ولا تبني”، وأن “الخداع والتدليس باسم الثورة والشرعية كلها أدوات رخيصة يستخدمها البعض لتأجيج نار الفتنة والصراع”.

وحملت عبارات باشاغا الكثير من الأمل في توحيد مؤسسات الدولة بشكل منهجي وشامل وفي تحقيق المصالحة الوطنية لتكتمل بذلك شروط تنظيم الانتخابات الرئاسية والتوافق على الدستور وعلى مختلف أسس البناء السليم للدولة، علما وأن التوافق بين مجلس النواب ومجلس الدولة الاستشاري فتح بدوره آفاقا جديدة لبلورة ملامح المستقبل برؤية ليبية داخلية متعددة الأبعاد ومتجاوبة مع الخيار الأساسي للمجتمع.

تمرّد الدبيبة

Thumbnail

في الأثناء، رفض رئيس حكومة تصريف الأعمال عبدالحميد الدبيبة الاعتراف بالمتغيرات التي تعرفها البلاد، ويسعى للتمرد على مجلسي النواب والدولة، مستندا إلى قوة المال وأبواق الإخوان وإلى الميليشيات الموالية له، وكذلك إلى النازحين من فلول مجالس شورى الجهاديين من شرق البلاد إلى غربها، فرجل الأعمال المعروف والذي جاء إلى حكم ضمن صفقة تحيط بها الشبهات بعد ملتقى الحوار السياسي بجنيف في الخامس من فبراير 2021، يحاول إغماض عينيه على جملة من المعطيات المهمة أبرزها أن الانتخابات التي يدعو إلى تنظيمها في يونيو القادم لن تتحقق في ظل استمرار المعطيات التي أطاحت باستحقاق الرابع والعشرين من ديسمبر، وأن تعهده بعدم الترشح لها لن يصدقه أي طرف حيث سبق له التعهد بذلك عند الترشح  لرئاسة الحكومة وفي جلسة منحه الثقة بسرت في مارس الماضي.

كما أن توافق مجلسي النواب والدولة يعتبر سابقة مهمة في طريق التقدم إلى الحل الشامل والنهائي، بالإضافة إلى أن قدرة سياسي ذي مرجعية عسكرية كباشاغا تتجاوز بكثير قدرة رجل الأعمال والمهندس المدني في التجرؤ على صياغة الأفكار والمبادرات الكبرى وقطع الخطوات الشجاعة التي تحتاج إليها البلاد خلال هذه المرحلة، واعتناق الواقعية السياسية كمنهج لتحقيق الوئام بعد الانقسام، فليبيا خلال هذه المرحلة الحرجة تحتاج إلى القدرة السياسية قبل المالية، وإلى النزعة البراغماتية قبل الخطابات العاطفية، وإلى التدابير طويلة المدى لا إلى الحلول الآنية الهادفة فقط إلى تجاوز الأزمات الطارئة، وإلى الاعتماد على الكتلة الوطنية الأكبر في امتداداتها السياسية والاجتماعية والمناطقية والثقافية من حول مشروع وطني جامع لا على تحالفات المصالح الشخصية والفئوية والجهوية من حول شخصية رئيس الحكومة.

ولكن من سينتصر في الصراع السياسي مع رجل الأعمال؟ جميع المؤشرات تؤكد أن باشاغا يبدو المؤهل للفوز في سباق المواجهة مع الدبيبة الذي قد يحتاج إلى ضمانات سياسية وقضائية للتخلي عن منصبه، ولاسيما في ظل شبهات الفساد التي تلاحق حكومته وعددا من المقربين منه، والتي يرى معارضوه أنها تتجسد بالخصوص في تحويله ديوان الحكومة إلى مركز للمصالح الأسرية والفئوية، وفي هدر المال العام دون نتائج فعلية على الأرض، وصرف ميزانية الطوارئ دون سند إجرائي عملي بعد عجز الحكومة على نيل تصديق البرلمان على ميزانية الدولة، وغيرها من المعطيات التي تحتاج إلى تمكين الدبيبة من تلك الضمانات، فالفساد في ظل حكومته كان واضحا ويكفي أن ثلاثة من وزرائه قد صدرت في حقهم قرارات الحبس الاحتياطي، لكنه بالمقابل كان يخطط للبقاء لسنوات عدة  قادمة في الحكم، وذلك ضمن منظومة سيطرة لوبيات المال والأعمال المدعومة من قبل الإخوان على مراكز القرار السياسي والاقتصادي.

ومنذ توليه الحكم، اعتمد الدبيبة على المال كسلاح ناجع لإدارة السياسات وشراء الولاءات وتجهيز الانتخابات وتحريك المسارات داخليا وخارجيا، فكل مواقفه ونشاطاته وقراراته كانت ترتبط بالأجور والرواتب والمساعدات والهبات والصفقات والأسعار وغيرها، كما كانت شبكة إدارته للحكم تعتمد على محافظ مصرف ليبيا المركزي ورئيس هيئة المحاسبة في سياق مشروع منفتح بقوة على مراكز نفوذ في العواصم الغربية، يهدف إلى بقاء الوضع على ما هو عليه لسنوات أخرى، ولاسيما أن تصدير النفط متواصل وأسعاره في ارتفاع وسيل المداخيل لا ينقطع ومبررات الفساد متاحة.

وبينما يرفض رجل الأعمال الإطاحة بسلطته من قبل مجلس النواب والتخلي عن امتيازاته، سيكون على السياسي المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة أن يواجه المشكلة بكثير من الهدوء، وبالاعتماد على ضبط النفس، وبالاتجاه إلى القوى المؤثرة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وداخليا وخارجيا، وإقليميا ودوليا، للدفع بها إلى إقناع الدبيبة بالتفاعل الإيجابي مع الواقع، تماما كما فعل فايز السراج، وتسليم السلطة في هدوء، وبما يحفظ السلم الأهلي ويسمح بالانطلاق نحو مرحلة جديدة على الصعيد الوطني تعد بالانسجام لا بالانقسام.

7