السودان وأزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا.. حضور يشبه الغياب

المؤشرات الراهنة تؤكد عدم تخلي الخرطوم عن نهج الرئيس المعزول عمر حسن البشير المنحاز للموقف الإثيوبي.
الأحد 2019/11/03
موقف غامض

في الوقت الذي اشتعلت فيه أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا مؤخرا، تعامل السودان معها وكأنها لا تعنيه من قريب، مع أن الخرطوم تمثل الضلع الثالث مع القاهرة وأديس أبابا. وأصبحت تطورات الأزمة، صعودا وهبوطا، محصورة في البلدين، ولم تبد السلطة الانتقالية السودانية موقفا واضحا، واعتبر صمتها يميل إلى وجهة نظر إثيوبيا، وجاءت موافقتها متأخرة على حضور لقاء برعاية واشنطن بين وزراء خارجية الدول الثلاث في 6 نوفمبر.

شهد السودان خلال الأيام الماضية نقاشات واسعة بين شريحة من النخبة السياسية حول موقف الخرطوم من سد النهضة، ووجهت بعض الأحزاب رسائل لرئيس الحكومة عبدالله حمدوك، منها ما حذر من خطورة الصمت وعدم التفاعل، وترك القضية تتقاذفها مصر وإثيوبيا فقط، ومنها ما طالب بوضع رؤية محددة لمكاسب وخسائر السودان من السد، وتبنّي موقف واضح تتعامل بموجبه الجهات المعنية، لأن التذبذب قد تكون عواقبه وخيمة.

تؤكد المؤشرات الراهنة عدم التخلي عن النهج الذي اتبعه الرئيس المعزول عمر حسن البشير، ومال كثيرا نحو دعم الموقف الإثيوبي، وابتعد عنه في لحظات نادرة تحسنت فيها العلاقات مع مصر، أو كان يرغب في ترطيب الأجواء معها من دون تبني مقاربات توحي بأنه تنصل من التزاماته السياسية مع أديس أبابا.

تكوّن لدى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في ذلك الوقت، تقدير بأن السد يحمل خيرا كثيرا للسودان، في الحصول على الكهرباء بأسعار تفضيلية، والاستفادة من مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وتنظيم الري، وما إلى ذلك من مزايا جرى الترويج لها عمدا، تبرر الدعم السوداني الكبير لمشروع السد، وتم تجاهل كل انتقادات مالت إلى أن هناك أضرارا قد تقع على البلاد، حال اكتمال البناء بالمواصفات التي يقوم عليها وتعرضه للانهيار.

الكلام الساكت

توقعت بعض الدوائر أن يحدث تغير في الموقف مع تولي السلطة الانتقالية الحكم، وتسبب تأخير تشكيلها في تأجيل بعض الاجتماعات الثلاثية، وعندما تم تجاوز هذه المشكلة عُقدت جلستان، إحداهما في القاهرة منتصف سبتمبر، والأخرى في الخرطوم أوائل أكتوبر الماضي.

ولم تتكشف هوية حاسمة لموقف سوداني عند احتدام التراشقات بين مصر وإثيوبيا، ووصولها إلى مستوى ساخن وصل درجة عدم استبعاد نشوب حرب بين البلدين، مع ذلك بقيت الخرطوم على حالها من الكلام الساكت، كما يقول أهل السودان.

ارتفعت وتيرة التجاذبات بين القاهرة وأديس أبابا، عندما طالبت الأولى بدخول طرف رابع يساعد في تسهيل التفاهم بينهما، ولم يتخل السودان عن صمته الذي فسره البعض بأنه يتماشى مع المواقف السابقة التي تبناها البشير، ويحمل تأييدا ضمنيا لإثيوبيا.

وتكرر الأمر وقت طرح استضافة الولايات المتحدة لاجتماع ثلاثي، تحمست له وأيدته القاهرة، وتحفظت عليه أو تجاهلته أديس أبابا، بينما واصلت الخرطوم تمسكها بفضيلة الصمت السياسي، حتى أعلنت الخميس الماضي موافقتها على حضور وزير الري ياسر عباس، ووزيرة الخارجية أسماء عبداللـه، بعد يوم واحد فقط من إعلان إثيوبيا قبول الدعوة.

حذر سوداني واضح تجاه الأزمة
حذر سوداني واضح تجاه الأزمة

يفرض انخراط الخرطوم في لقاء واشنطن أن تكون رؤيتها ناصعة، فالمحادثات من المفترض أن تكون شفافة، وتتناول جميع الجوانب الفنية لمشروع سد النهضة، وكل من القاهرة وأديس أبابا لديها الحسابات التي تعزز موقفها وتبرر عدم تراجعها، بصرف النظر عن المسافة المتباعدة بينهما، والمطلوب من واشنطن تقريبها للحد الذي ينزع فتيل الأزمة ويعيد الهدوء إلى المنطقة، من خلال تقديم حلول مبتكرة ترضي غرور إثيوبيا، وتتجنب وقوع أضرار مائية على مصر.

لا يزال موقف السودان مبهما، وربما يفهم من السياق العام أن ثمة إنحيازا نحو إثيوبيا، غير أن اهتمام بعض الشخصيات السياسية في الخرطوم بالأزمة وضع على عاتق رئيس الحكومة، عبدالله حمدوك، عبئا ثقيلا في الشق الذي يتهمه بتكرار سياسات نظام البشير بشأن تأييد المشروع بلا تحفظ وبالطريقة التي تريدها إثيوبيا، في حين هناك دراسات تشير إلى احتمال وجود مخاطر بالغة على السودان.

وجه الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، رسالة إلى آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، هنأه فيها بفوزه بجائزة نوبل للسلام، وناشده البحث عن حل عادل لأزمة سد النهضة يحافظ على حقوق جميع الدول، وقدم عادل عبدالعاطي رئيس الحزب الليبرالي السوداني، خطابا لحمدوك، ناشده فيه دراسة الأزمة والاهتمام بها والحفاظ على حقوق البلاد المائية، وكتب فيصل عوض حسن سلسلة من المقالات، حذر فيها من تراخي السودان في الدفاع عن مصالحه الإقليمية، وما ينطوي عليه سد النهضة من تهديد مباشر لها.

تقديرات سياسية أم فنية

تتعامل الخرطوم سياسيا بحذر شديد مع الأزمة، ولم تعلن صراحة عن طفرة مغايرة في التصورات، ليس اقتناعا بسابقتها المعمول بها منذ أيام البشير، لكن لأنها تفتقر إلى الدراسات الجادة التي تعدها جهات مسؤولة في البلاد. وكل ما رشح من معلومات، سلبا أو إيجابا، كان خاضعا لتقديرات سياسية أكثر منها فنية، وجزء أصيل فيها عوامل تتحكم في مسار العلاقات مع أديس أبابا وتجعلها لا تحتمل التوتر والغليان، وجزء آخر لا يخلو من مكايدة مقصودة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم لمصر.

انتهت هذه المرحلة، لكن رواسبها موجودة في الآليات التي تدير بها الخرطوم ملف سد النهضة، من جهة استمرار بعض المسؤولين في وزارة الري وإصرارهم على وجهة نظرهم المؤيدة للحق الإثيوبي والمكاسب السودانية والتعنت المصري، وهو ما أدى إلى عدم تغيير المواقف السياسية والفنية عما كانت عليه أيام البشير حتى الآن.

يحتاج تقديم رؤية سودانية جديدة أو إجراء تعديل في الموقف القديم الحصول على دراسات فنية سودانية رسمية تجهض التقدير المنصرم، وهذا يتطلب المزيد من الوقت، لأن المعلومات المتوافرة من أطراف عدة تقديراتها متفاوتة في المكاسب والخسائر، بصورة تضع الحكومة أمام مأزق كبير عند دخول مفاوضات واشنطن، وهل تصر على تبني موقف أديس أبابا أم تميل إلى القاهرة؟

انخراط الخرطوم في لقاء واشنطن يفرض أن تكون رؤيتها ناصعة، فالمحادثات من المفترض أن تكون شفافة، وتتناول جميع الجوانب الفنية لمشروع سد النهضة، وكل من القاهرة وأديس أبابا لديها الحسابات التي تعزز موقفها وتبرر عدم تراجعها

النتيجة في الحالتين ستكون لها انعكاسات على ما سيقدمه الطرف الأميركي (الرابع) من حلول خلاقة للخروج بالأزمة إلى بر الأمان، فدخول واشنطن لن يضيّع وقتا في الاستماع لوجهة نظر جميع الأطراف، بل لاقتراح تسوية تؤدي إلى تبريد أزمة، قد تتصاعد بمرور الوقت، فلدى الولايات المتحدة الصورة الكاملة، فنيا وسياسيا وأمنيا.

وضعت الرسائل التي وجهتها بعض الشخصيات السياسية السودانية عبر إشارات حذرت من وقوع مخاطر كبيرة بسبب سد النهضة، السلطة في موقف المتقاعس، لأنه جرى تفجير قضية حساسة تتعلق بحقوق تاريخية مسكوت عنها في إقليم بني شنقول القريب من الحدود الجنوبية الشرقية والذي يقام عليه السد.

تطغى الجوانب السياسية على الفنية في التعامل السوداني مع الأزمة، وبدت التوجهات العامة خاضعة لهذه المسألة، فالبشير استخدم أزمة السد كورقة في إدارة علاقته مع كل من القاهرة وأديس أبابا، بما جعل التعاطي معها مرهونا بشكل التطورات مع العاصمتين فترة طويلة.

اختلاف الدوافع

كشفت الأسابيع الماضية عن شيء يشبه إعادة إنتاج الموقف السابق، مع اختلاف الدوافع في الحالتين. ففي زمن البشير كان التوجه السياسي محكوما وإلى حد بعيد بحالة الخصام والوئام التي تعيشها الخرطوم مع القاهرة، والآن يسيطر على السودان موقف تصالحي مع أديس أبابا على مفاتيح كثيرة في التعاملات الإقليمية، وهذا لا يعني أن هناك فتورا مع القاهرة، غير أنه قد يكون من نوعية الهدوء الذي يسبق العاصفة، في ظل هواجس سودانية غير رسمية من تطوير العلاقات مع مصر، وهناك ملفات خلافية تتجاوز سد النهضة.

إعادة إنتاج لمواقف سابقة
إعادة إنتاج لمواقف سابقة

يمثل تحديد مكانة سد النهضة في التصورات الاستراتيجية للسودان، ومزاياه وعيوبه، نقطة البدء في معرفة المسار التفاوضي المقبل، ففي لحظة معينة ستعلن الحكومة عن رأيها الفني بجلاء، بعيدا عن أي مراوغات سياسية، لأن المشروع قاب قوسين أو أدنى ليتحول إلى أمر واقع على الأرض، وتظهر كراماته أو سلبياته.

لتحاشي الوقوع في مفارقة من هذا النوع، ستحاول الإدارة الأميركية تبني رؤية ترضي الأطراف الثلاثة، من خلال التوفيق بين المطالب والحقوق والطموحات. وهو المخرج الذي يساعد السودان على الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع إثيوبيا، وعدم خسارة مصر، وتجنب مغادرة مربع الغموض البناء ورسم صورة للموقف النهائي من السد، في وقت تتضارب فيه التقديرات بما يحشره في زاوية ضيقة مع جهات متعددة.

6