السنوار إرهابي وشهيد في مصر

إنكار الشهادة على السنوار ربما مقدمة لتغير ما أو جس نبض لجهات معينة أو توازن في التقديرات وقد يكون مواءمة مع ما بدا كأنه انجراف شعبي مصري نحو التعاطف مع حماس.
الجمعة 2024/10/25
أثار الجدل في حياته وبعد مماته

فجّر مصرع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة مؤخرا، سيلا من النقاشات حول ما إذا كان الرجل مات شهيدا أم إرهابيا. وانتشر جدل بشأن ذلك في دول عربية عدة، غالبيتها اعتبرته شهيدا أو لم تظهر بصمات رسمية واضحة للتصنيف، والقليل منها دمغته بالإرهاب.

واللافت في التصنيف أنه بدا مرتهنا بالموقف السياسي للدول والجماعات والأفراد، إذ يحدد الاختيار التوجه العام لكل جهة، وفي أي صف تقف، مع المقاومة أو ضدها.

كشف غلق مكتب “إم بي سي” في بغداد عن جانب من الأزمة، حيث استخدمت الشبكة السعودية وصف الإرهاب لنعت المقاومة، والتي انتهت برفع التقرير من على شبكات التواصل الاجتماعي وإحالة المسؤولين عنه إلى التحقيق، ما يعني عدم وجود إرادة سياسية لتعميم وصف الإرهاب أو وجود إشكاليات تحيط به، أو حسابات دقيقة تتعلق بالجهة التي بثت التقرير.

خفتت هذه الأزمة، وطويت صفحتها مؤقتا، لكن هناك أخرى تصاعدت في مصر، وتحول الراحل يحيى السنوار إلى مادة دسمة للنقاش الإعلامي وعلى مواقع التواصل، وصلت إلى حد امتلاك كل جهة صك البراءة أو الإدانة، أو بمعنى أدق الشهادة أو الإرهاب.

◄ جدل الشهادة والإرهاب لن ينتهي في مصر أو غيرها طالما أن الصفة سياسية ومطاطة، كما أن كل موتى التنظيمات الإسلامية المتطرفة في نظر ضحاياهم إرهابيون بينما في نظر أتباعهم شهداء

المثير أن الموقف المصري الذي عبرت عنه وسائل الإعلام الرسمية انحاز منذ بداية الحرب قبل نحو عام إلى صف المقاومة وإدانة التصرفات والانتهاكات الإسرائيلية، وكل من لقوا حتفهم من الفلسطينيين وُصفوا بالشهداء، سواء أكانوا تابعين لحماس ويقاتلون في صفوفها أم مواطنين لا حول لهم ولا قوة، أسقطت إسرائيل قنابلها على رؤوسهم، وهي رسالة تعبر عن توجهات القاهرة التي حاولت التوفيق بين هذا الموقف ودورها في الوساطة بين إسرائيل وحماس، وتركت الانحياز الشعبي للأخيرة، وعززت وسائل الإعلام هذه المقاربة دون تردد في استخدام لفظ الشهداء، ولم يظهر من قريب أو بعيد وصف الإرهاب في خطابها.

ما الذي تغير بعد مصرع يحيى السنوار، وجعل إعلاميا مقربا من السلطة المصرية مثل أحمد موسى يصفه بالإرهابي، وينفعل في تثبيت رؤيته، والتي استندت إلى أعمال عنف اتهمت بارتكابها عناصر تنتمي إلى الحركة في مصر عقب ثورة يناير 2011.

لم يظهر شيء ملموس في الحلبة العسكرية والسياسية الفلسطينية يدخل تعديلا على الموقف المصري، كل ما حدث أن حركة حماس انكسرت في غزة، وتأكد أن إسرائيل تفوقت وحققت جزءا كبيرا من أهدافها، وحديث أحمد موسى بنفي صفة الشهادة عن السنوار هو محاولة للإيحاء بأن موقف الدولة القديم لم يتغير من حماس، بحسبانها حركة إخوانية، وأن التعاون معها في الفترة الماضية، أي قبل حرب غزة، كان من باب الحفاظ على الأمن القومي في سيناء، خاصة أن قيادات الحركة أبدت تعاونا كبيرا مع أجهزة الأمن المصرية في بعض عمليات مكافحة الإرهابيين وتطويق المتطرفين، ما قلل من جدوى الاتهامات السابقة، والتي برأتها منها محكمة مصرية.

تعرض موسى ومن مضوا في طريقه لسيل من الانتقادات ردا على وصف السنوار بالإرهابي، وسيقت قصص متفرقة للتأكيد على أنه شهيد وبلا مماطلة من فريق آخر، وبين الروايتين مساحة رمادية يستطيع أن يمرح فيها كل طرف، بما يمكنه من تثبيت الصفة التي أراد إسباغها على يحيى السنوار، هذه المساحة يتحكم فيها الموقف الأيديولوجي، كما تتحكم فيها الرسالة التي تريد توصيلها القاهرة، والتي وإن هادنت حماس وطورت علاقاتها الأمنية معها في وقت معين لمنع تسرب إرهابيين إلى سيناء فهي لا تنسى جذورها الإخوانية.

ناهيك عن انتهاء الحاجة إليها بعد ضعفها أمنيا في قطاع غزة، وبالتالي عدم قدرتها على التأثير أمنيا في سيناء أو أي بقعة في مصر، حيث جفف الإرهاب في ربوعها مؤخرا، وجرى تقويض دور جماعة الإخوان على جميع مستوياتها.

نجحت السلطات المصرية في ترسيخ صورة الشهيد لدى قطاع كبير من المواطنين، وجعلته ممن ينتمي إلى صفوف الجيش والشرطة في المقام الأول، انطلاقا من التضحيات التي بذلها أبناء هاتين المؤسستين العريقتين في الحرب الشرسة التي خاضوها ضد الإرهاب لفترة طويلة، ومع أن هذا البعد ذو طابع محلي صرف، فإن الإعلامي أحمد موسى استخدمه لنفي الشهادة عن السنوار، ودمغه بالإرهاب، بعد أشهر طويلة من مدح المقاومة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، وعدم التردد في تعميم كلمة الشهادة على كل ضحاياها على يد الاحتلال الإسرائيلي.

◄ الراحل يحيى السنوار تحول إلى مادة دسمة للنقاش الإعلامي وعلى مواقع التواصل، وصلت إلى حد امتلاك كل جهة صك البراءة أو الإدانة، أو بمعنى أدق الشهادة أو الإرهاب

يشير النقاش حول مفردتي الشهادة والإرهاب إلى تغير نسبي في الموقف من حماس، ليس المطلوب إعلانه رسميا الآن، كي لا يبدو متناقضا مع ما سبقه من مواقف إيجابية، وكي لا تفهمه إسرائيل على أنه انحياز إليها أو تبنّ لرؤيتها، لكنه في الجوهر هو تعبير كاشف عن طبيعة الحسابات المعقدة التي ستحيط بمصر في المرحلة المقبلة من تداعيات الحرب على غزة ولبنان والموقف من حركة حماس، والقضية الفلسطينية عموما، فهناك تطورات يمكن أن تحدث تستوجب التعامل معها بديناميكية، حفاظا على المصالح الحيوية للدولة المصرية.

وفي ظل أن وضع حماس بعد الحرب مختلف تماما عما قبلها، ستكون هناك رؤية جديدة للتعامل مع المعطيات الناجمة عن التطورات المتسارعة، وإنكار الشهادة على السنوار ربما مقدمة لتغير ما أو جس نبض لجهات معينة أو توازن في التقديرات، وقد يكون مواءمة مع ما بدا كأنه انجراف شعبي مصري نحو التعاطف مع حماس وضحاياها، وتحول السنوار عند فئة من المصريين إلى رمز للبطل الذي لم يخذل قضيته، ومات في الميدان صلبا، وليس في نفق، حيث حاولت الدعاية الإسرائيلية تأكيد أنه حمى نفسه وترك الفلسطينيين فوق الأرض يواجهون الاحتلال وحدهم.

لن ينتهي جدل الشهادة والإرهاب في مصر أو غيرها، طالما أن الصفة سياسية ومطاطة، كما أن كل موتى التنظيمات الإسلامية المتطرفة في نظر ضحاياهم إرهابيون بينما في نظر أتباعهم شهداء، وتصطحب هذه الازدواجية سرديات أخرى مثل أهل الجنة والنار، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والتي لا ينتهي الجدل حولها منذ قرون لأنه يخضع لتأويلات وتفسيرات تنبع من قناعات دينية لدى صاحبها.

وسوف يبقى تحديد هوية السنوار بالنسبة إلى الشهادة أو الإرهاب خاضعا لما رسخ في ذهن مطلق الصفة من مواقف سياسية ودينية ومع أو ضد هذا أو ذاك، والتي يمكن أن تتغير وفقا للسياقات العامة، فقد يكون الشخص شهيدا عند طرف وإرهابيا عند آخر، وإذا تغيرت المعطيات التي حتمت إطلاق هذه الصفة أو تلك ربما تتغير الصفة أيضا.

8