السلفية الجهادية وسؤال الاحتواء
سأحـاول أن أقـدم رأيـاً بسيطـاً حول قضيـة شائكة ومثيرة للجدل، قضية تثير أيضاً بعـض الدّهشة وغير قليل من الاستغراب. والمستغرب في القضية أنّنا لم نسمع أحداً في فرنسا يدعو الدّولة إلى احتواء اليمين المتطرف رغم قوّته الانتخابية المتنامية.
ولم نسمع أحداً في ألمانيا يدعو الدّولة إلى احتواء النازيين الجُدد رغم قدرتهـم على التجييش والإزعاج في بعض الأحيان. ولم نسمع أحداً في إيطاليا يدعو الدّولة إلى احتواء اليمين الفاشي رغم قوته السياسية.
لكننا فقط في البلاد العربية نسمع، هنا أو هناك، من يدعو إلى احتواء السلفية الجهادية، ثم يحدد معيار الاحتواء في كلمة واحدة هي : الموقف من الحاكم.
وبهذا النحو يصبح الموقف من الحاكم مقياساً للتطرّف ومقياساً للاعتدال، وهذه المعادلة الاختزالية خاطئة في كل الأحوال. والسؤال، هل يمكن أن يكون الموقف من الحاكم معياراً للاعتدال الديني؟
مرّة أخرى، نحـن هنا لا نتحـدّث عن مجـرد أشخاص قـد يغيرون قناعاتهـم وقد يراجعـون منطلقـاتهم، وهذا حق مبـاح ورجاء متاح، وفعلا كثيرون من انتقلوا من أهوال التطرّف الهمجي إلى أحوال الحيـاة المدنية.
كثيرون من نجوا من جحيم تجربة التطرّف، ومنهم من أصبح مفكرا بارزا ومنهم من صار إعلاميا مرموقا أو نحو ذلك. وشخصياً أعرف أشخاصا عديدين ممن انقلبوا على تطرفهم، فأصبحوا طاقات خلاقة في التنميـة البشرية والتنوير الشعبي. وهذا هو المعنى الحقيقي للاحتواء أو إعادة الإدماج. لكن المشكلة، كل المشكلة، تتعلق بالخطاب وليس بالأشخاص.
المشكلة أننا أمام خطاب كان ولا يزال تكفيرياً في مبناه ومعناه سواء استثنى السلطان الحاكم من هذا التكفير كل الوقت أو بعض الوقت، أو لم يستثنه في أي وقت من الأوقات؛ طالما أن الخطورة على الأمن العام والسلم الأهلي هي نفسها.
إنّ أصل العنف الديني، كما نُردد دائماً، هو خطاب فقهي منتج للعنف بصرف النظر عن موقفه المعلن من السلطان الحاكم.
وبمعنى صريح لا لبس فيه نقول: ما لم يتغير موقف خطاب شيوخ السلفية من قضية المرأة، ومن حقوق الأقليات، ومن الحريات الفردية، ومن المعايير الكونية لحقوق الإنسان، ومن الديمقراطية، ومن القوانين الحديثة، فإن العبـارة التي تقول “إن الدولة تحتوي السلفية الجهادية” ستبقى هي نفس العبـارة التي تقول “إن السلفية الجهادية تخترق الدولـة”، لا فرق.
والحال أننا كنا، ولا نزال، نعاني من انتشار خطاب تكفيري يردد في كل مناسبة أو من دون مناسبة بأنّ الديمقراطية شرك بالله، وبـأن حرية المرأة فساد ودعارة، وبأن الحريـات الفرديـة فسـق وتشبّه بالكفار، وما إلى ذلك.
لا تتعلق المشكلة باحتواء أو عدم احتواء الدولة لشيوخ السلفية الجهادية، السؤال الأكثر أهمية هو ماذا عن الخطاب نفسه، أي خطاب السلفية الجهادية؟
وهنا لا يجوز بأي حال أن نقصر نظرنا عما يقوله السلفيون الجهاديون للحاكم، أو ما يقولونه عن الحاكم، وإلا فإنهم سبق أن لقّبوا جعفر النميـري بأمير المؤمنـين ولما ثار الشعب عليه كانـوا أول المنقلبين.
ولقبـوا أنـور السـادات بالرئيس المؤمن دون أن يمنعهم ذلك من اغتياله. ثم إنهـم في كل الأحـوال يحفظـون عـن ظهر قلب العبارة التي تقول “إمام جـائر خير من عدمـه”.
لكن يجب علينا أن نعتبر معايير الاعتدال أو القابلية للاعتدال تتعلق بالموقف من المؤسسات والقوانين والحريات وحقوق المرأة وحقوق الأقليات. وهذا هـو المطلـوب على وجه التحديد.
في الحقيقة لا يبدو واضحاً ما تعنيه كلمـة احتواء عندما يتعلق الأمر بخطاب تكفيري المنزع، حتى وإن استثنى حـاكم البـلاد من هذا التكفير، لكن أخشى ما نخشاه هـو أن تعني كلمـة احتـواء هنـا مـا يلي:لكـي لا نشـم رائحـة العفن يمكننا أن نتعفـن جميعنا.
كاتب مغربي