السلطة الانقلابية والتمادي في إضاعة حقوق السودان

جاء في الأنباء أن وزارة الخارجية الإثيوبية استدعت السفير السوداني يوم 13 نوفمبر الماضي لإبلاغه رفضها لتصريح أدلى به وزير خارجية السودان لإحدى قنوات التلفزة المصرية، تضمن تأكيد وقوف السودان إلى جانب مصر والتهديد بـ”خيار الحرب في حال فشل المحادثات حول سد النهضة الإثيوبي وعدم التوصل إلى اتفاق يضمن حقوق الدول الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا.”
لعل أول ما يسترعي الانتباه في تصريح وزير الخارجية السوداني هو أنه يقتفي أثر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في التهديد بزعزعة الأمن والاستقرار في الإقليم في حال المساس بحصة مصر المائية. ففي حديثه بتاريخ 30 مارس 2021، قال السيسي بالحرف الواحد “لا أحد يقدر ياخذ من مصر نقطة مياه واحدة ومن يريد فليجرب (لا أحد يستطيع أن يأخذ من مصر ولو نقطة مياه واحدة، ومن تسوّل له نفسه ذلك فليجرب).”
جاء تصريح وزير خارجية السودان في مستهل توليه المنصب ليقدم برهانًا جديدًا يؤكد تبعية سلطة بورتسودان الانقلابية لمصر وتفانيها في رعاية وخدمة مصالحها في ما يخص قضية مياه النيل، حتى وإن كانت على الضد من مصالح السودان. ولإقامة الدليل على هذه الحجة نتساءل: هل لسد النهضة أي تأثير سلبي على كمية المياه المتدفقة نحو مصر؟
ونجيب، بناءً على آراء الخبراء والمختصين، بعدم وجود أي تأثير سلبي يذكر، لأن إثيوبيا شيدت سد النهضة لإنتاج الكهرباء وليس لغرض الزراعة. والدليل على ذلك أن المنطقة حول بحيرة السد جبلية ولا تضم أراضي صالحة للزراعة، فضلًا عن أن عملية استخدام المياه المخزنة ببحيرة السد لتوليد الكهرباء ثم إطلاقها لا تُنقص من كمية المياه المتدفقة نحو مصر.
وتأسيسًا على ما سبق نتساءل مجددًا: ما هي المبررات والدوافع وراء تهديد الرئيس المصري بزعزعة استقرار المنطقة في حال نقصت حصة مصر من المياه قطرة واحدة؟
السؤال الذي يعني السودان أكثر من غيره فهو: ماذا يمكن أن يترتب على إنشاء سد النهضة من نقص في كمية المياه المتدفقة نحو مصر؟
الإجابة، في تقديرنا، هي سعي مصر إلى المحافظة على ما تعتبره حقوقها التاريخية في الهيمنة على مياه النيل، وخاصة حق الفيتو الذي يمنع دول الحوض من إقامة السدود والمشروعات الزراعية على جانبي النيل قبل الحصول على موافقة مصر. وعليه، فإن قضية سد النهضة ما هي إلا جزء من الخلاف بين مصر وإثيوبيا من جهة، ومصر وبقية دول حوض النيل -عدا السودان- من جهة ثانية، حول هذه الحقوق التاريخية التي حصلت عليها مصر بموجب اتفاقيات تم توقيعها أثناء الحقبة الاستعمارية للقارة الأفريقية، ولم تكن إثيوبيا وبقية دول حوض النيل أطرافًا فيها. وهذا ما دفع هذه الدول إلى توقيع اتفاق عنتيبي، الذي دخل حيز التنفيذ مؤخرًا كمعاهدة وإطار قانون جديد يهدف إلى إعادة تقسيم حصص المياه وتحقيق الانتفاع العادل والمنصف من المياه لجميع دول حوض النيل.
أما السؤال الذي يعني السودان أكثر من غيره فهو: ماذا يمكن أن يترتب على إنشاء سد النهضة من نقص في كمية المياه المتدفقة نحو مصر؟ الإجابة هي أن سد النهضة سيكون سببًا في تنظيم انسياب المياه في النيل الأزرق والمحافظة على معدل الانسياب طوال العام، ما سيتيح للسودان استغلال كامل حصته من المياه البالغة 18.5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية مياه النيل الموقعة بين السودان ومصر في عام 1959. وهذه هي مشكلة مصر مع سد النهضة، لأن استغلال السودان لحصته من المياه بالكامل يعني أنه سيتمكن من استرداد نصيبه من هذه الحصة، الذي ظل يذهب إلى مصر سنويًا منذ أكثر من 60 عامًا بلا مقابل، وهو ليس “نقطة مياه واحدة”، بل قدره خبراء المياه بحوالي 6 إلى 7 مليارات متر مكعب من المياه سنويًا. وليس مستبعدًا أن تكون مصر قد أضافته إلى حقوقها التاريخية من مياه النيل!
وكان شاهد من أهل مصر قد أكد هذا الأمر، وهو ليس من عامة الناس، بل وزير الري والموارد المائية الأسبق المهندس محمد نصرالدين علام، الذي قال في تسجيل بالصورة والصوت مبثوث في السوشيال ميديا “إن المشكلة الأكبر لمصر إذا انتظمت مياه النيل على مدى العام هي أنها ستشجع السودان على زراعة موسمين زراعيين بدلًا من موسم واحد أثناء الفيضان، ما يؤثر في حصة مصر المائية.”
وأخيرًا لا بد من أن نقول إنه إذا وجدنا العذر للرئيس المصري في تهديده أمن واستقرار الإقليم في حال نقصت حصته من المياه، باعتبار أنه يدافع عن مكاسب بلده ومصالحها (بالعديل واللعوج، كما يقول أهلنا)، فكيف نفسر مواقف وزير خارجية السودان وسلطة الأمر الواقع الانقلابية في بورتسودان، وهم يقفون ضد مصالح بلده بالانحياز الأعمى لمصر؟
الحكمة ومصلحة الوطن تقتضي أن الوقوف على مسافة واحدة بين مصر وإثيوبيا والاعتراف بحقوق دول حوض النيل -بما فيها إثيوبيا- في الاستفادة من مواردها المائية، الأمر الذي يمكن أن يساعد في بناء الثقة والدفع باتجاه التعاون المشترك، الذي يرجى أن تكون ثماره تعظيم استفادة السودان من إيجابيات سد النهضة، الذي صار حقيقة ماثلة. علاوة على ذلك ينبغي مراعاة حاجة مصر إلى المياه، باعتبار أنها -بخلاف دول الحوض الأخرى – لا تتوفر لديها مصادر أخرى للمياه غير نهر النيل، إلى جانب ضرورة توقف إثيوبيا عن الإجراءات الأحادية في عمليات ملء بحيرة وتشغيل سد النهضة، التي قد تعود بالضرر على السودان.