السكن بعيدا عن جلباب الأهل مطلب جيل الحرية والانفتاح

فرضت ظروف الدراسة والعمل على شريحة واسعة من الشباب الانتقال من منزل العائلة إلى السكن المستقل، ليصبح في ما بعد أشبه بنمط حياة بات مألوفا في المجتمعات العربية. ويساعد هذا النمط من الاستقلالية الذاتية الشاب في بناء جزء من شخصيته يصعب أن يُبنى لو عاش في بيت العائلة.
تونس - انتقلت آمنة إلى العيش منفردة في سكن مستقل عن عائلتها بسبب دراستها في الجامعة قبل خمس سنوات، لكنها بعد التخرج من الجامعة تجد صعوبة في العودة إلى منزل العائلة والخضوع لسلطتها، بعد أن شعرت بالاستقلالية وحرية اتخاذ القرارات في حياتها الخاصة، وهو اتجاه متزايد لدى الشباب العرب للحياة باستقلالية.
وتضيف الشابة التونسية في تصريحات لـ”العرب”، “إنني في مرحلة أريد خلالها التقدم إلى الأمام والتطور والانفتاح على مجالات جديدة. وهذا غير متاح مع الأهل”.
ويرى الشباب أن الاستقلالية في السكن تجعلهم أشخاصا مختلفين كليا عما كانوا عليه في منزل العائلة، سواء بالشخصية التي تزداد قوة وثقة من خلال الاعتماد على الذات، أو بالأفكار والآراء المختلفة التي يكتشفونها ويبنونها مع الوقت، من مختلف التجارب السلبية والإيجابية.
وحتى عندما تكون للشاب أفكار معيّنة لم يجرؤ على البوح بها، لأنها غير ملائمة للبيئة التي نشأ فيها، إلا أن الاستقلالية تجعله أكثرة قدرة على البوح والانفتاح ومشاركة الآخرين هذه الأفكار والشعور بحرية فكرية أكبر.
وتعلق سعيد على الانتقادات التي تطال الفتيات المستقلات في العالم العربي، بالقول “أنا ضد الذين يعارضون سكن الفتاة وحدها، خاصة إذا كان هذا من أجل التعليم أو العمل، لأنه من حق كل فتاة كأي شاب أن تبحث عن مستقبلها، وإن كان هذا يحتاج أن تسكن وحدها بعيدا عن أهلها. لكن المجتمع العربي لا يزال يجد صعوبة في تقبّل هذه الفكرة، غير أن المجتمع التونسي بشكل عام أكثر تقبلا لفكرة استقلالية أبنائه من مجتمعات أخرى”.
خارج عن الطاعة
يقول الكثير من الشباب إن نمط الحياة الحديث وطموحات الشباب إلى الاستقلالية والحرية الشخصية لا يتناسبان مع رقابة الأسرة وتعليماتها وقيودها، وأصبح السكن بعيدا عن عباءة الأهل مطلبا للكثير من الشباب الذين يريدون خوض معترك الحياة منفردين.
وترفض غالبية الأسر استقلال أبنائها عنها في بيت خاص لأسباب يتعلق بعضها بالتقاليد وطبيعة المجتمع وأخرى ترجع إلى خوف الأهل على أبنائهم من الانحرافات المتعددة، إلا أن رغبات الشباب وطموحاتهم إلى الحرية الشخصية تتغلب على حجج الأهل.
وتسبب الضغوط التي يواجهها الشباب من قبل الأهل والمواقف الرافضة لبعض أفكارهم، في مشاكل عديدة داخل الأسر وعندها يبدأ معظمهم بالتفكير في الاستقلالية عن العائلة، وخاصة إذا كان لديهم عمل ومصدر دخل.
نمط الحياة الحديث وطموحات الشباب إلى الاستقلالية والحرية الشخصية لا يتناسبان مع رقابة الأسرة وقيودها
ويرى البعض أن الاستقلالية هي حالة ذهنية ونفسية وليست مجرّد العيش منفردا في مكان ما لأنه يساعد في بناء جزء من الشخصية من غير الممكن أن يُبنى لو عاش الشاب في بيت العائلة إضافة إلى أنه يكسبه صداقات من المستحيل أن يكسبها لو عاش في حيّه ومجتمعه المعتاد، ويؤكدون أن ممارسة الحرية الشخصية صعب المنال في بيت الأسرة.
ويستغرب الشاب محمد زغلامي (26 عاما) ويعمل في المهن الحرة، من نظرة الناس للشاب الذي يعيش بمفرده مع أن هذا الأمر طبيعي في البلدان الغربية، حيث يتاح للشاب أن تكون له شخصيته المستقلة بعد أن يبلغ الـ18 فيما يعتبر الشاب العربي الذي يتخذ قرارا بالعيش لمفرده خارجا عن الطاعة.
ويضيف زغلامي أن الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالحرية الشخصية سواء كانت أمورا عادية أو غير عادية لا يرضى عنها الأهل.
ويرى أنه “من الطبيعي أن يكون لدى الشاب مزاج مختلف عن الأهل وعن أجوائهم، فهم لا يقبلون بأبسط الأمور مثل السهر مع الأصدقاء إلى أوقات متأخرة في الليل”.
انطلاق ضروري

يلفت بعض المختصين الاجتماعيين إلى أن الانطلاق ضروري حتى يتمكن الجيل الجديد من التعرّف على مجالات أخرى ما دام سيدخل معترك الحياة ليحقق وجوده، كما أن الوصول إلى عمر الشباب، يفرض على الشاب الخروج من عباءة الأهل والتوسع في علاقاته ومعارفه مما يجعله منفتحا على آفاق واسعة.
ويجب على الأهل أن يسهموا في انطلاق أبنائهم، أو في سفرهم أيضا إذا أتيح لهم عمل جيّد، بينما الحصار ضمن دائرة محددة يجعل الابن مضطرا إلى الاعتماد على أهله من الناحية المادية، كما يجعله ضيّق الأفق من الناحية الاجتماعية.
ويفرض التطور والتقدم في المجتمع منح الشباب المزيد من الاستقلالية والحرية، الذي يعني بالضرورة اعتمادهم على أنفسهم وتحقيق أمنياتهم ورغباتهم من دون مساعدة الأهل.
وبدأ هذا الأمر ملموسا في المجتمعات لدى الشباب الذين يريدون تحقيق الذات والامتياز في التعليم، خصوصا في حال عدم توفر الطمأنينة والألفة في التنشئة الاجتماعية، ما يدفع الأبناء إلى الخروج والاستقلال.
وتقول الأخصائية الاجتماعية التونسية ألفة مسعودي “إن الرغبة في الاستقلالية التي يطمح معظم الشباب إلى تحقيقها هي أمر طبيعي لأن الأشخاص في هذه المرحلة ينحصر همّهم في تكوين شخصيتهم بعيدا عن الأسرة، والعمل بكل الوسائل لتحقيق ذواتهم والتصرف بكل حرية ودون قيود”.
لكن هذا الأمر لا يبدو سهلا في المجتمعات المحافظة، حيث تلاحق الشباب فكرة أنهم لا يفهمون معنى الاستقلالية في حياتهم، ليصلوا بمستويات تفكيرهم ومعتقداتهم الشخصية، إلى الخلط بين الحرية والاستقلالية.
وتعيش الأسرة والشاب صراعا حول حريته واستقلاليته بالمفهوم الخاص به، فخوف الأهل على أبنائهم من الانحراف ورفاق السوء يجعل الممنوعات لا تحصى، وتتسبب بإحساس بالاختناق لدى جيل اليوم الذي لم يعد ممكنا تقييده.
الاستقلالية في السكن تنعكس على شخصية الشاب سواء بالشخصية التي تزداد قوة وثقة من خلال الاعتماد على الذات، أو بالأفكار والآراء
كما أن هذه المجتمعات التي لا تتقبل أن تسكن المرأة أو الفتاة في بيت مستقل، بسبب تاريخ طويل من العادات والتقاليد والمفاهيم الاجتماعية المتراكمة منذ زمن طويل، إلا أن الاستثناءات تتزايد وينفتح البعض على الفكرة أكثر فأكثر مع مرور الوقت.
وتؤمن آمنة التي تعمل بائعة في أحد محلات الملابس، ريثما تحصل على فرصة عمل في مجال اختصاصها، بأن سكن الفتاة وحدها يشكل شخصيتها، ويمنحها قوة على مواجهة تحديات الحياة، وترى أنها كونها مستقلة ومسؤولة عن نفسها بكل تفاصيل حياتها اليومية، من شأنه مساعدتها على تحقيق ذاتها.
وترى أنه من الأفضل لأي فتاة تدرس في جامعة بعيدة عن منزل أهلها، أن تشترك في سكن جامعي أو غيره مع صديقاتها في شقة تكون قريبة من الجامعة خلال الفترة الأولى.
ويخفف السكن المشترك الذي تفرضه ظروف التعليم أو العمل العبء المادي عن الشاب، كما يعد خيارا مناسبا لمن لا يحبذون الوحدة بعد الخروج من بيت الأسرة.
وتتحدّث آمنة عن تجربة عايشتها من خلال صديقتها التي واجهت صعوبات كبيرة في إقناع أسرتها بالانتقال من أجل الدراسة، إذ كان والدها من المقتنعين بفكرة أن نظرة المجتمع لا ترحم الفتاة التي تعيش وحدها، ويعتبر خطرا أخلاقيا يمكن أن تتداوله ألسنة الناس في قريتهم.
إضافة إلى ترديد عبارات مثل “لا يجب على الفتاة مغادرة بيت أهلها سوى إلى منزل الزوج”.لكنها بعد أن تمكنت من السكن بعيدا عن عائلتها، حققت استقلاليتها وتعززت ثقتها بنفسها، ولم تعد تلتفت كثيرا للانتقادات.
وتعد تجربة السكن مع أشخاص، غير أفراد الأسرة، تجربة مميزة في حياة الشاب حيث يتعلم منها الكثير من التعويل على نفسه إلى تحمل مسؤوليات الحياة المستقلة، لكنها تجربة قد تؤثر على مسار حياة الشاب قليلُ التجاربِ بحكم الدخول في علاقات اجتماعية جديدة قد تفتح الباب على مصراعيه أمام مغامرات غير محسوبة العواقب.
يهم السكن المشترك الشاب أكثر من غيره من الفئات الاجتماعية لأنه في مرحلة بناء مستقبله وتضطره ظروف التعليم أو العمل إلى الخروج من مقر سكن العائلة نحو مدينة أخرى أو بلد آخر للبدء في مرحلة جديدة من حياته.
في البداية يمثل الاستقرار في السكن نقطة الانطلاق وتشغل هذه النقطة حيّزا هاما من تفكير الشاب لأنها تسهل عليه حياته اليومية وتوفر له أرضية للنجاح.
وينتقل غالبية الطلاب الجامعيين في تونس من مدنهم إلى المدن الكبرى حيث الجامعات والمعاهد العليا، وتكون المرحلة الطلابية مقترنة عندهم بالسكن المشترك فهم قد يشاركون أشخاصا يعرفونهم أو غرباء عنهم نفس البيت ونفس الغرفة.
مرحلة حاسمة
ويمر بالتجربة ذاتها من يجدون عملا بعيدا عن مقر سكناهم ويدخلون في مرحلة البحث عن سكن وعن شركاء لتخفيف العبء المالي نظرا إلى غلاء أسعار إيجارات المنازل خاصة في المدن الكبرى. لكن هذا لا ينفي وجود شباب وفتيات يختارون السكن الفردي ممن تسمح لهم إمكانياتهم المادية ويفضلون العيش في إطار الاستقلالية التامة والتحرّر من كل القيود التي تفرضها مشاركة الآخرين وأيضا من يميلون إلى الوحدة.
وتعد هذه المرحلة مرحلة اكتشاف بالنسبة إلى الشاب عموما؛ مرحلة اكتشاف لمكان آخر، لأشخاص جدد ولنمط حياة جديدة يكتسب الطالب أو العامل إبانها العديد من التجارب التي تترك آثارها على شخصيته كأن يتحول من ابن مدلل إلى فرد مسؤول في المجتمع، قادر على توفير كل ما يلزمه بنفسه ومُطالب أيضا بالنجاح في تعليمه أو في وظيفته.
ويقول حسن السوداني أستاذ اللغة العربية وناشط في المجتمع المدني “إن السكن المشترك يؤثر كثيرا على شخصية وتكوين الشاب خاصة على المستويين الاجتماعي والنفسي فتكوين علاقات جديدة تواكبه نشأة أفكار وسلوكيات جديدة قد تكون خطرة وتهدد الاستقرار النفسي والمسار الدراسي والمهني”.
ويضيف لـ”العرب” “في رأيي يجب أن يكون السكن المشترك تحت إشراف الأولياء خاصة مع أجواء الحريات وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي لأن فكرة التقاء مجموعة من الأفراد في مكان مشترك قد تولد انحرافات كبيرة وعليه يفترض متابعة سير الشاب، ويتوجب على الولي تحمل تبعات اختلاط ابنه أو ابنته بفئات مختلفة وأنماط تفكير قد تكون شاذة أو متطرفة”.
ويرفض الكثير من الشباب والفتيات فكرة أن السكن المستقل سيبعدهم عن الزواج وتأسيس عائلة، بل على العكس يقولون إن مع هذه المرحلة ترتبط بمرحلة ما قبل الزواج لإعداد المستقبل وهي ليست تمردا ورفضا للواقع الأسري.
وتعتبر آمنة أن بيت العائلة لا مثيل له، ولكنها لن تعود للسكن هناك في المستقبل القريب، لأنه واقعٌ في قرية صغيرة لا مجال فيها لأن يتقدم الإنسان كثيرا وأن يتطور وأن تنفتح أمامه مجالات عمل جديدة. أما في المدن فمجالات العمل متوفرة أكثر وإمكانيات التطور أوسع.