السريالي المخلوع فيكتور براونر يستعيد عرشه في معرض افتراضي

يتواصل الحجر الصحي وتتواصل العروض الافتراضية في فرنسا كما هو الحال مع معرض الفنان الروماني فيكتور براونر أحد أعلام السريالية، الذي كان من المفروض أن يحتفي به المتحف الوطني للفن الحديث بباريس ما بين سبتمبر 2020 ونهاية أبريل 2021.
بدأ فيكتور براونر الرسم منذ دخوله المدرسة الإنجيلية ببرايلا، وشغف بدراسة الحيوان، وكان إلى جانب ذلك يسترق النظر إلى عمليات استحضار أرواح سرية كان ينظمها والده في بيته بمدينة بيترا نيامتز الرومانية، ولعل ذلك ما يفسّر انجذابه إلى العجيب والغريب. ثمّ التحق بمدرسة الفنون الجميلة ببوخارست، ولكن لم يدم فيها طويلا، فما لبث أن طُرد منها بسبب لوحاته التي استقبحها أساتذته وعدّوها منافية لقواعد الفن وشروطه.
لم يثبط ذلك عزيمته، إذ انضم إلى فناني الطليعة في العاصمة الرومانية بوخارست وصار واحدا من أهمّ ناشطيها، بل إنّه أسّس مجلة “دادا” (وإن لم يصدر منها سوى عدد يتيم) كتب فيها مانيفستو “الرسم – الشعر” أوضح من خلاله أن عمله لا هو بالرسم ولا بالشعر، بل هو جمع بين أشكال هندسية تختلف بحسب الألوان ولمسة الفرشة حيث ترتسم أحرف مخطوطة باليد تشكّل في الذهن المستقبلي والدادائي والبنائي في الوقت نفسه لغة لا يكون لها معنى إلاّ بخطها على القماشة لتعكس التعبير الديناميكي للصورة.
حدث ذلك قبل أن يحطّ رحله في باريس حيث استقبله ابن بلده قسطنطين برانكوسي، فمضى يتابع باهتمام شديد الحركات الطلائعية كالتعبيرية والبنائية والدادائية، وصادق جاكوميتي وخاصة إيف تانغي الذي عرّفه على السرياليين.
ومنذ ذلك الوقت صار عضوا في الحركة السريالية وبقي ينشط داخلها طيلة خمسة عشر عاما حتّى طرد منها بسبب مواقفه المغالية، رغم أن أندري بروطون احتضنه وكتب له مقدّمة أول معرض أقامه في باريس.
ذلك أنّه نشأ متمرّدا على كل ما يعتبر ممتثلا للسائد، ولاسيما كل ما له صلة بالمجتمع البرجوازي، فقد عرف الفقر سواء في رومانيا حيث كانت عائلته مضطرة إلى التنقل من بلد إلى آخر بسبب الحرب، من رومانيا إلى ألمانيا فالنمسا، قبل أن تستقر ببوخارست؛ ثم في أعوام هجرته الأولى إلى فرنسا، في باريس ثمّ في مقاطعة سافوا، ما جعله يقتصد في استعمال أدواته الفنية فيخلط الشمع بالطلاء الزيتي لإنجاز لوحاته، ثم صار يضيف إليهما عناصر أخرى كالرمل والتراب والخيوط.
ومنذ أن فقد إحدى عينيه في مشاجرة بين رسّامين مهاجرين هما أيضا، وهما الإسبانيان أوسكار دومنغيث وإستيبان فرنشيس، صارت العين المثقوبة إضافة إلى علاقته بالواقعي والعجائبي هوسا لديه يتجلّى في سلسلة سالومي كما في لوحته “بورتريه ذاتي” حيث يصوّر نفسه بعين مفقوءة أمام رجل يرسم بأعضاء تنتأ من عينيه.
يستقي براونر أعماله من الفن الشعبي والميثولوجيا كما يتجلّى في لوحته “اللقاء” التي تمثل وحشا غريبا برأس وجسدين وستّ أذرع يتحرّك في غابة كثيفة شبيهة بغابات الفرنسي الديواني روسّو صحبة شخص أسود غريب يعزف على الناي كأنه يحاول أن يثير إعجاب الوحش.
ويستقيها أيضا من العوالم الباطنية، إذ كان لا يني يستحضر أكثر المذاهب سرية كالتارو والخيمياء والقبلانية.. إلى جانب التحليل النفسي، ويدمج كل تلك العناصر في عالم يمتزج فيه الحلم بالخيال، ويعكس تساؤلاته عن الكون وما وراءه، فلغته الفنية لا تصف الواقع بقدر ما تعكس الأسس اللامرئية للعالم. والطريف أن هذه المرحلة التي عانى فيها الضيق والقلق والجزع، تميّزت بالثراء والخصوبة وشكلت أهمّ مرحلة في مسيرته الفنية.
بعد مرضه ازدادت لوحاته قتامة وصارت وحيدة اللون تقريبا، ولكن عناوينها استعادت سخرية الدادائيين كما تدلّ على ذلك “أتوموما” و”آيروبلابا” و”أورغوسبوتنيك” و”سمكة ذات عجلات”.
ورغم ذلك ظلت السريالية كامنة فيه من خلال نقل الاستيهام الأكثر حرية والإلهام الذي يرصد اللاوعي بشكل دائم والإحساس العميق بمعنى الهزل والسخرية والاستعارة التشكيلية واستكشاف الحلم والتنويم وخاصة توتمية اللاوعي الفردي والجماعي، وهو ما عّبر عنه بالأزمنة الثلاثة “كل الحاضر، غموض الماضي، ولغز الحاضر”.
لوحات براونر تعكس تساؤلاته عن الكون وما وراءه وفق لغة فنية لا تصف الواقع بل تبحث في أسسه اللامرئية
يقول براونر “الرسم هو الحياة، الحياة الحق، حياتي”، وحياته طبعتها منذ الطفولة ثلاثة أحداث هامة: ثورة المزارعين الكبرى في مولدافيا، تلك التي جعلته يواجه بشكل
مباشر وعنيف البؤس والفقر ويأس شعب كامل، ونوبات استحضار الأرواح التي كان ينظمها أبوه، ومرور مذنّب “هالي” الذي رأى فيه المتطيّرون “نذير شؤم”. وهو ما عاشه حتى وفاته بعد مسيرة جلّلتها معارض كثيرة في شتى المدن الكبرى كلندن ونيويورك وشيكاغو وميلانو وجنيف وفينيسيا وفيينا.
وفي المعرض الافتراضي الأخير الذي أقامه المتحف الوطني للفن الحديث بباريس وقع الاحتفاء بتجربة فيكتور براونر وفق مسار كرونولوجي يعكس امتزاج أعماله بمراحل حياته، حيث يبدأ بمرحلة الشباب الرومانية ويمرّ إلى اللقاء مع العالم السريالي، ثم ينتقل إلى “المغامرة السريالية”، تعقبها “الحدود السوداء” التي تصوّر أعوام الحرب، وتليها
“حول التكتل” وتختتم بـ”ما بعد الحرب” و”ما وراء السريالية”. وهي أعمال ألهمت عددا من الكتاب والشعراء أمثال أندري بروطون وروني شار وبنجامان بيري.
يقول فيكتور براونر “فني تعبير عن سيرتي الذاتية، يروي حياتي، وحياتي مثالية، لأنها كونية”.