السذاجة تدفع للانتحار
غريبة هي حال الدنيا وقاسية للغاية في بعض الأحيان، ففي بعض الأحيان ترفع من شأن شخص وتوصله إلى القمة ليبلغ عنان السماء، وفي أحيان أخرى تعبث مثلما تشاء بمصائر البعض لتحوّل الواقع إلى ما يشبه الكابوس المرعب.
حال الدنيا بتقلباتها و”غضبها” مثل حال كرة القدم تماما، فهي التي تمنح اللاعبين الموهوبين رغد العيش والحياة الهنيئة السعيدة، وهي أيضا التي تسقط البعض منهم في هوّة الضياع والتشرد. الأمثلة عديدة في هذا السياق، فالبرتغالي رونالدو الذي ولد فقيرا معدوما بات اليوم من أغنى أثرياء الرياضة في العالم، والبرازيليان رونالدينهو ومارسيلو ولدا في عائلتين فقيرتين للغاية لكن كرة القدم منحتهما الثروة والشهرة والنجومية، لكن ألم تعبث من قبل هذه الكرة “المجنونة” بلاعبين أفذاذ مثل البرازيلي أدريانو الذي قيل إنه امتهن التسكع في أحياء ساوباولو الفقيرة أو مثل الإنكليزيين بول غاسكوين وجورج بيست الذي عاش كل منهما حياة الملوك قبل أن تنقلب عليه الأمور وينهي حياته متشردا متسكعا في الشوارع الخلفية.. ومثلهم كثر؟
قسوة هذه الكرة “الملعونة” أحيانا يعاني منها حاليا أحد أبرز نجوم منتخب الكوت ديفوار في السنوات الأخيرة، إنه إيمانويل إيبويه الذي تسلق سلم المجد بخطوات ثابتة بعد تألقه اللافت سواء مع أرسنال الإنكليزي أو قلعة السرايا التركي، فبنى ثروة ضخمة وعاش ردحا من الزمن حياة البذخ والثراء قبل أن تعطيه الدنيا بظهرها وتبعث به الأقدار مثلما أرادت ليخسر كل ثروته في لمح البصر ويعود فقيرا أكثر مما كان عليه في زمن الصغر.
فالنجم السابق لـ”المدفعجية” بات مشردا لا يقدر على العيش في منزله بسبب تدهور وضعه المالي والاجتماعي، فبعد أن خسر زوجته التي انفصلت عنه فقد إثر ذلك كل شيء لفائدتها بعد أن أجبرته الأحكام القضائية للتنازل لها عن أغلب ممتلكاته، فبات أشبه بمشرد بلا مأوى وبلا مصدر رزق بعد أن أجبرته الإصابات المتكررة على اعتزال اللعب. بات اليوم مهموما وحيدا بلا مستقبل، لقد خسر إيبويه كل شيء ولم يعد له من الماضي سوى بعض الذكريات الجميلة التي لن تتكرر أبدا.
لقد عرف هذا اللاعب الذي كان من أبرز عناصر منتخب “الفيلة” خلال السنوات الماضية نجاحا منقطع النظير مع أرسنال حيث التحق بصفوفه سنة 2005 قادما من نادي بيفرن البلجيكي، ومنذ ذلك التاريخ بات هذا اللاعب من نجوم الدوري الإنكليزي إذ اعتمد عليه المدرب أرسين فينغر في أغلب المباريات وكان من الركائز الثابتة في تركيبة هذا الفريق، كان نجما مؤثرا والكل معجب بقدراته، كل هذه المعطيات جعلته يحظى بامتيازات مالية ضخمة للغاية، ليعيش حياة الرفاهة والثراء ورغد العيش.
كان بالأمس يتمتع بسحر مدينة لندن، كان من بين صفوة القوم هناك، وهذا الأمر مفهوم ومنطقي بما أن أغلب نجوم الصف الأول في عالم الكرة العالمية يحصلون على عائدات وإيرادات كبيرة للغاية، ومثل أغلب هؤلاء النجوم أراد إيبويه بناء حياة أسرية يكون شعارها الاستقرار والسعادة، فشيد قصره الخاص وتزوج، لتتواصل حياته “اللندنية” في أفضل حال.
لكن هذه الدنيا “الدوارة”، الغادرة أحيانا دفعته إلى مغادرة مدينته المفضلة والاتجاه إلى تركيا بعد أن خرج من حسابات أرسنال سنة 2011 ليوقع مع نادي قلعة السرايا الذي قضى معه حوالي خمسة مواسم حقق خلالها بعض النجاحات وتمكن من زيادة مرابيحه وتطوير ثروته، لكنه لم يكن يدري أن القدر سيبعث به ويقسو عليه بشكل لا يصدق.
لم يكن إيبويه رغم جمعه أموالا طائلة يفكر مليا في اليوم الذي ستجبره الظروف خلاله على اتخاذ قرار الاعتزال، كان يعيش يومه مثل سائر بقية النجوم، تمتع بنعيم الأموال وقضى وقتا طويلا ببعض الملذات، ربما لم يدر في خلده أنه سيأتي اليوم الذي تغتاله خلاله أحلامه وترديه فقيرا معدوما مشردا.
لقد حلم إيبويه بتكوين أسرة وكان له ما أراد، لكن خطيئته الكبرى هو أنه لم يحرص على حماية هذا الحلم وتطويره، فالزوجة التي اختارها بنفسه “أجهزت” عليه بعد أن خذلته وغادرته ونجحت بفضل قوة القانون في مصادرة أغلب أملاكه وأمواله في وقت كان خلاله بحاجة ماسة إلى دفء العائلة بعد أن قست عليه الظروف وحكمت عليه بالابتعاد عن الملاعب بسبب الإصابات المتكررة.
لم يقرأ هذا النجم الإيفواري حسابا لهذا اليوم، لم يفكر في أن يكون مدربا بعد الاعتزال، لم يبرمج أن يكون محللا رياضيا عند تقدمه في العمر، لم يفكر سوى في جمع المال وصرفه دون أي تخطيط لمستقبله. اليوم بات إيبويه فقيرا لا يجد أحيانا أين يقضي لياليه التعيسة خوفا من ملاحقة الشرطة التي تطالبه بدفع مستحقات لفائدة طليقته التي سلبته كل شيء.
لم يبق أمامه سوى التفكير في الانتحار وكان قريبا جدا من تنفيذ الفكرة، وهو ما اعترف به مؤخرا عندما قال إنه كان يتعين عليه دفع ثمن سذاجته غاليا، هذه السذاجة التي كلفته خسارة كل ما يملك.
فإيبويه لم يحسن الاختيار وأطنب في حياة اللهو والترف المبالغ فيهما دون أن يدري أن القدر خبأ له مفاجأة ستقلب حياته رأسا على عقب. هذا اللاعب عانى من قسوة الحياة ومن غدر من أحب بالأمس سواء زوجته أو ناديه الإنكليزي أرسنال، لكن حبل النجاة أتى من فريقه التركي قلعة السرايا الذي منحه فرصة جديدة للنهوض بعد أن عينه مدربا مساعدا في فريق للفئات السنية الناشئة، لكن سيتعين عليه هذه المرة أن يتخلص من سذاجته حتى لا يضطر حقا إلى الانتحار.
كاتب صحافي تونسي