الزيارة الأخيرة ووصية هيثم الزبيدي

لا أغدق على نفسي بصفة الوفاء لكن الله شاهد على ما أقول وأشعر به، فإنني أرى في الوفاء سمة أخلاقية بين الأصدقاء والإخوة فكيف بأخي العزيز الرائع الذي لم تلده أمي هيثم الزبيدي.
الجمعة 2025/05/23
عندما أراك يا أبوعلي تذهب الأوجاع

بقدر ما أشعر بألم الفقدان لأخي وصديق السنين الطويلة الدكتور هيثم الزبيدي، فإنني أشعر أيضا بالوفاء لهذا الإنسان النبيل الوفيّ المخلص.

قبل أكثر من عام زارنا هيثم في أبوظبي كنت أرافقه في أروقة “الوحدة مول” وهو لا يتوقف عن ممازحتي أو “مداهرتي بود” كما تقولون بالعراقي، بينما اشتدت عليه أعراض المرض اللعين، ولكن كما عرفناه، فهيثم قويّ في أصعب الظروف التي عاشها على مدار عمره ولم يسمح للمرض أن يكسره مطلقا.

قال لي وهو يضمني إلى نفسه: يا أبوعلي لديّ وصية لك.

قلت له أُأمر يا أبوعمر.

قال: إن الألم لا يبارحني وأشعر بأنه ينهك جسدي، فإذا اتصلت بك يوما مّا وقلت لك إنني متعب وشعرت أنت مع بعد المسافة ما بين لندن وأبوظبي بتعبي، فإنني لن أقول لك تعال إلى لندن، لكن أمنيتي أن أراك قبل الرحيل الأبدي.

لقد هزني هذا الكلام الموجع وكان بمثابة السهم القاتل في أحشاء القلب، فنحن نتحدث يوميا في اتصالات لا تنقطع. فلماذا يريدني أن أترقب منه اتصال الوداع، غير أنه قد شعر بقرب أجله المحتوم لكل الناس وفق إرادة الله القوي العظيم.

ظلت تلك الوصية من العزيز هيثم الزبيدي أمانة في قلبي، ومن المخجل أن أغدق على نفسي بصفة الوفاء، لكن الله شاهد على ما أقول وأشعر به، فإنني أرى في الوفاء سمة أخلاقية بين الأصدقاء والإخوة، فكيف بأخي العزيز الرائع الذي لم تلده أمي هيثم الزبيدي “رحمة الله على روحه”.

في بداية شهر مايو الحالي أتصل بي أخي هيثم من تونس حيث كانت زيارته الأخيرة لتفقد مكتب جريدة “العرب”، وكنت في اجتماع عمل ولم أستطع الرد. لكن رسالته تشير إلى شيء ما عندما كتب “أبوعلي أحتاج عشر دقائق من وقتك كي نحكي.”

يالله كم كانت مخيفة وموجعة هذه الرسالة فأنا وهيثم لا نتوقف عن الاتصال بشكل دائم، فكيف يطلب مني هذه الدقائق.

وبمجرد انتهاء الاجتماع بادرت للاتصال بأخي هيثم فسمعت ما يدمي القلب وهو يقول لي “أنا متعب والأطباء أخبروني بأن أيامي الأخيرة اقتربت، فهل تتذكر وصيتي.”

تحدثنا قليلا وقررت أن التحق به في تونس، إلا أنه قال لي بأنه سيعود إلى لندن في الغد.

فحجزت تذكرتي وأتيت إلى لندن في اليوم الثاني. شعرت حينها وأنا ألتقي بصديق السنوات الطويلة وأخي الذي أضع رأسي على كتفه، بأنني أفي بتحقيق وصية هيثم الذي أخبرني بها قبل أكثر من سنة في أبوظبي.

رأيت جسده النحيل، ومع أنه كان يتألم فوق طاقة الإنسان أخذني بالأحضان وابتسم. بقيت معه سبع ساعات في المستشفى وهو يواجه الألم بالابتسامة.

قال لي اذهب لترتاح من رحلة السفر وغدا نلتقي.

بقيت آنذاك ثلاثة أيام معه، أتصل به صباحا ويقول تعال فأكون مع نهار اليوم بأكمله تقريبا.

كان يتألم بشدة تفوق كل ألم عاشه على مدار السنوات الماضية وهو على سرير الوداع الأخير. وكانت تطل علينا السيدة زوجته أم عمر بابتسامتها المعهودة لتبث نوعا من الأمل مع أنني أشعر بقلبها المكسور على رفيق دربها.

وبعد أيام قلت له “يا أبوعمر الله يحبني، لأنني زرتك في هذا الوقت.”

خففت حقن الدواء وفرحته بلقائي من أوجاعه، وقال لي “عندما أراك يا أبوعلي تذهب الأوجاع، فأنت بمثابة الأخ ورفيق العمر، وكنت أدرك أنك لن تنسى الوصية، عندما أطلبك تأتي.”

هكذا بقيت معه ثلاثة أيام متواصلة أبكّر صباحا بزيارته ولا أغادره حتى منتصف الليل. حتى قال لي حان وقت سفرك، اذهب فأنا بخير إن شاء الله.

في طريقي إلى المطار في اليوم التالي اتصلت بالسيدة أم عمر زوجته وسألتها عن أحواله فقالت “يا أبوعلي أمضى ليلة لا يحسد عليها، حضر الأطباء والممرضون إلى المنزل بعد أن ساء وضعه.”

قررت إلغاء سفري وأنا في المطار فرفضت السيدة زوجته وقالت سننقله إلى المستشفى غدا.

في مساء ذلك اليوم انتقل العزيز هيثم الزبيدي إلى جوار ربه. عرفت ذلك من اتصال السيدة زوجته وأنا في القاهرة في سفرة عمل وقرأت ما كتبه رفيق دربه الصحافي كرم نعمة الذي كان هيثم لا يتردد بقول “كرم عيني الأخرى على شؤون الجريدة” فكتبت تلك الأبيات علّني أعبّر عمّا في قلبي من حب ووفاء لهذا الرجل الذي عاش محبا للآخرين وكريم النفس وصادقا “في النفوس الموت ماصعب قراره/ كم يفرّق بين غالي وغالي/ جالنا الأخبار بعد الزيارة/ موت أخونا والصديق المثالي/ موت هيثم في زمنا خسارة/ لكن أمر الله في كل حالي/ عاش حر ومات رافع شعاره/ هكذا الأحرار وأهل المعالي/ يا عسى الفردوس الأعلى دياره/ ثبته يا الله عند السؤالي.”

واليوم بعد أن قطعت زيارتي إلى القاهرة كي أكون مع محبي الراحل العزيز هيثم الزبيدي أشاركهم آلام فقدانه والصلاة على جثمانه والسير في موكب التشييع المهيب ومواراته الثرى وحضور مجلس العزاء الحافل في لندن، فإنني أيضا أشعر أن الله تعالى قد ساعدني كي أفي بوصية هيثم لي وهذا ما يريح ضميري. فطالما كنت له الأخ والصديق المقرب، كما كنت معه في آخر أيامه.

7