الرياضيات: قوة الجمال الرمزي

الرياضيات قوة استراتيجية، ومن يغفل أهمية هذه القوة العظيمة وتأثيراتها سيخسر كلّ الفرص المتاحة له في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي تلوح تباشيرها في الأفق.
الأربعاء 2018/07/25
الرياضيات خزان عبقري يمثّل جوهرة الرأسمال الرمزي (لوحة: دينو أحمد علي)

في التفاتة مثيرة لكنها غير غريبة على المشتغلين بموازين القوة الاستراتيجية التي تُقاس بها مواقع الأمم على الخارطة العالمية، يشير البروفسور ألفرد ماكوي في كتاب له صدر عام 2017 بعنوان “ظلال القرن الأميركي: صعود وانكفاء القوة الأميركية العالمية”، إلى جملة من العوامل التي جعلت الدور الاستراتيجي الأميركي ينكفئ بالمقارنة مع ما كان عليه الحال قبل عقود خلت، ويرى الكتاب أنّ عام 2025 سيكون نقطة مفصلية غير قابلة للانعكاس في الانكفاء الأميركي.

من المثير حقا أن يفرد المؤلّف مساحة معتبرة لعامل يراه مؤثرا في انكفاء القوة الاستراتيجية الأميركية؛ فهو يرى أنّ الأميركان تراجعوا كثيرا في مسابقات الأولمبياد الخاصة بالرياضيات التي تسيّدها في العقد الأخير طلبة من سنغافورة وكوريا والهند ومنطقة جنوب شرق آسيا بصفة عامة، وثمة اعتقاد راسخ بأنّ هؤلاء الطلبة اللامعين هم من سيقودون قاطرة التطوّر العلمي والتقني في حقبة الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد صعود تقنيات ثورية تتمحور على تطبيقات مذهلة في حقل الروبوتات المعززة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي العميق.

كانت عناصر القوة الاستراتيجية للإمبراطوريات الآفلة في عصور الثورات الصناعية السابقة تنشأ من امتلاك كينونات مادية يمكن وصفها بأنها “صلبة”، ومن هذه الكينونات الصلبة: إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية -وبخاصة محاصيل الحبوب- بكميات تؤهلها للتحكم في سوق الحبوب العالمية، امتلاك وسائل الإنتاج الصناعي المادي – المدني والعسكري – واسع النطاق، تطوير منظومات تعليم راقية ومتعددة المخرجات..

الارتقاء بتعليم الرياضيات يعني الموازنة بين المهارات الاحتسابية من جهة وقدرات التفكّر الرياضياتي الفلسفي

هناك سمة جوهرية في مسيرة التطور الإنساني تتجلى في ارتقاء شأن القيمة الاستراتيجية لمنظومة التفكير الرمزي التي توصف بِـ”الرأسماليات الرمزية”، وقد واصلت هذه المنظومة الرمزية الارتقاء في كلّ ثورة صناعية حتى تفوقت في أهميتها على منظومات القوة الاستراتيجية الصلبة، ويمكن معاينة بعض آثار هذا التفوق الضارب في الثورة الصناعية الثالثة التي نحياها اليوم (وهي الثورة المعلوماتية) حيث غدت منظومات “السوفتوير” عماد هذه الثورة في كلّ جوانبها، وسوف يستمرّ ارتقاء المنظومات الرمزية في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد تراجعا شاملا في كلّ أشكال الاستراتيجية الصلبة.

ينشأ دور الرياضيات في هذه اللعبة الاستراتيجية من كونها الخزان العبقري الذي يمثل جوهرة الرأسمال الرمزي في التجربة البشرية، وليس غريبا أن نرى مدرسة مميزة للفكر الرياضياتي في كلّ البلدان التي تمثّل اليوم مراكز للقوى الاستراتيجية العالمية : روسيا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، أميركا، الصين، الهند.. وكان لكلّ من هذه المدارس علماؤها الأفذاذ الذين رسموا معالم الثورة الرياضياتية في جميع جوانبها المشرقة.

لا بدّ أن نثبّت هنا حقيقة حاسمة: إنّ التأكيد على الارتقاء بتعليم الرياضيات لا يعني أبدا إثقال كاهل الطلبة بالمزيد من الأعباء الروتينية في الحقول الرياضياتية التقليدية (تفاضل وتكامل، جبر، هندسة، معادلات تفاضلية..) بل يعني الموازنة بين المهارات الاحتسابية من جهة وقدرات التفكّر الرياضياتي الفلسفي على الصعيد الرمزي من جهة أخرى وبما يتيح للطلبة تذوّق متعة الرياضيات وقدرتها الهائلة التي يمكن توظيفها في حقول كثيرة مثل حقل النظم الدينامية العشوائية الذي سيشهد تطبيقات ثورية غير مسبوقة في السنوات القادمة.

أجل، الرياضيات قوة استراتيجية، ومن يغفل أهمية هذه القوة العظيمة وتأثيراتها سيخسر كلّ الفرص المتاحة له في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي تلوح تباشيرها في الأفق.

14