الرهان على صبر المصريين لا يضمن أرضية استقرار صلبة

كان غياب النشاط السياسي عن المشهد العام في مصر مقبولا بشكل نسبي كإجراء مؤقت لمواجهة الإرهاب ووقف الاستقطاب في مرحلة إعادة بناء الدولة، بعد إسقاط حكم الإخوان إبان ثورة 30 يونيو 2013، لكن استمرار الغياب أو ما يسميه البعض بـ”التغييب السياسي” يخدم التيارات التي تغذي الفوضى.
القاهرة – نجح النظام المصري في العبور بالبلاد إلى بر الأمان بعد الاحتجاجات التي شهدتها خلال الأسابيع الماضية. كان من بين أسباب هذه النجاة محدودية نطاق الاحتجاجات وعدد المشاركين فيها، إلا أن ذلك لا يعني محدودية عدد المصريين الغاضبين من الأزمات في بلادهم، بل بالعكس. وإذا كان من طرف تحسب له حالة الهدوء التي سادت مصر رغم المظاهرات فهم المصريون أنفسهم الذين اختاروا التعامل بروية مع الدعوات إلى التظاهر.
لكن، سعة صبر المصريين المنهكين اقتصاديا قد لا تطول كثيرا، خاصة إذا ما استمر الاصطياد في مياه هذه الأزمات بالتزامن مع غياب لافت لظهير سياسي وحزبي يدعم الحكومة بشكل موضوعي، مختلف عن خطاب الإعلام الرسمي الخشبي الذي كان له نتيجة عكسية. وهذا الظهير لا يكون فقط من الموالين بل من مختلف الأحزاب والمعارضة التي عليها أن تنزل من برجها العاجي وتخرج من جلباب الأيديولوجيا الجامدة، حتى وإن كانت مهمة صعبة.
بعد أن هدأت الموجة في مصر، صار لازما الوقوف على أطلالها ومراجعة النقائص وترميم التصدعات وإعادة بناء الحياة السياسة في البلاد لمنع محاولات استغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لإسقاط البلاد في دوامة من الاضطراب والفوضى.
ورأى محللون وسياسيون مصريون أن هذه المرحلة الإصلاحية، التي يجب أن تشارك فيها الأحزاب والمعارضة، لا فقط الحكومة، يجب أن تتم وفق ضوابط وقواعد منظمة لتكون ضمانة حقيقية وحائط صد منيع أمام عودة بعض الجهات للتحكم في ترمومتر الشارع واستغلاله وتوجيهه.
وقال سياسيون إن دعوات التظاهر الأخيرة ومحاولات تهديد الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي كانت نتيجة منطقية لانسداد الأفق السياسي وغياب فكرة التنفيس عن المجتمع لتجد من يتجاوب معها ويستثمرها بشكل خاطئ.
وعكست التسريبات الأخيرة وجود نية لدى دوائر الحكم في إنعاش الحياة السياسية وأن هناك قناعة راسخة لدى الحكومة المصرية بأن الاستقرار الحقيقي يبدأ بفتح المجال العام وتوسيع قاعدة المشاركة.
لكن، وفي نفس الوقت، تتخوف السلطة من أن تتسلل تنظيمات دينية متطرفة وتستثمر هذه الحالة وتتخفى وسط المعارضة، خاصة أن البعض من فئات الشعب يفتقر لمستوى معين من الوعي والنضج الفكريين لاستيعاب جميع الألوان السياسية على قاعدة الديمقراطية الواسعة.
وذكر مقربون من دوائر الحكم أن هناك توجها لدى النظام لتفعيل دور الأحزاب وإنشاء مجلس استشاري للشؤون السياسية، يوازي المجلس الاستشاري الاقتصادي، وفتح مجالات أوسع لحرية الرأي والتعبير وإسناد البعض من الحقائب الوزارية لسياسيين وتخفيض نسبة الاستعانة بالتكنوقراط.
رفض التيار الديني
استطلعت “العرب” توجهات بعض الشخصيات من تيارات متباينة لرسم تصور واضح للإصلاحات المرتقبة، والتي تزايد الحديث عنها في وسائل إعلام حكومية، وبدا واضحا أن هناك اتفاقا شبه جماعي بين مختلف التيارات المعبرة عن الشارع السياسي في عدة نقاط، أولاها الاعتراف بوجود أزمة تواجه الحياة السياسية تتمثل في انكماش وتراجع التأييد الشعبي للطبقة السياسية عموما.
اتفق هؤلاء على أن عودة التيار الديني للمشاركة تحت أي لافتة فكرة مرفوضة من الجميع، نظرا للمخاطر الناجمة عن ذلك في ظل دولة مدنية جديدة تقوم على المواطنة ومبدأ تكافؤ الفرص، إذ لا يجرؤ أي تيار أو حزب سياسي على قبول إعادة فتح الباب أمام التيارات الدينية المتطرفة للتغلغل في مناحي المجتمع مرة أخرى، لما يحمله هؤلاء من فكر مضاد لمفهوم الوطن ذاته.
في نفس المسار، أصبحت هناك ضرورة حتمية لاتخاذ جملة قرارات اقتصادية واجتماعية لانتشال آلاف الأسر من الفقر المدقع، بما يحول دون إعادة توظيف المال السياسي للعب دور مباشر في السيطرة على الرأي العام وشحن الفئات الغاضبة ضد السلطة، مع ضرورة الإفراج عن السجناء غير المتورطين في قضايا إرهاب أو عنف.
الأحزاب جزء من المشكل لأن الكثير منها يعاني من صراعات وانقسامات وأزمات مالية، فضلا عن عدم تطور خطابها السياسي
يربط البعض بين إحياء الحياة السياسية، وإزالة الحواجز الأمنية والتشريعية التي تواجه الأحزاب وتحول بينها وبين الوصول إلى الجماهير، لأنه حتى وإن كان هناك 104 أحزاب من توجهات فكرية مختلفة، لكنّ ثمة قيودا مفروضة على حركتها.
ورأى سيد عبدالعال، رئيس حزب التجمع التقدمي (يساري)، وهو حزب قائم في البلاد منذ سنة 1976، أن العمل السياسي الدستوري القائم من خلال الأحزاب، حائط الصد المنيع لمواجهة دعوات الفوضى وهدم أركان الدولة المصرية، لافتا إلى وجود حواجز وعوائق كثيرة تواجه عمل الأحزاب وتؤثر على تواجدها في الشارع، بعضها تشريعي، والآخر إعلامي.
وضرب مثالا على ذلك رفض وزارة الشباب والرياضة التعاون مع الأحزاب القائمة في تأهيل وتثقيف الشباب، في الوقت الذي تتعاون فيه مع نواب البرلمان، والمشكلة أن هناك تصورات قائمة لدى أجهزة الإعلام الحكومية، بأن الأحزاب خصوم للدولة، ما يدفعها إلى التقليل من دورها والإشارة إليها دوما باعتبارها “كرتونية – شكلية” أو التركيز على نشوب خلافات بين قياداتها.
وأضاف أن الأحزاب جزء من الدولة المصرية، والمشكلة ليست في ارتفاع عددها، ففي دولة مثل إسبانيا يوجد 370 حزبا، لكن المشكلة في النظرة السائدة لدى بعض الجهات لها باعتبارها خطرا على استقرار الدولة، وهي نظرة خاطئة.
تصحيح مسار
تتطلب تقوية الحياة السياسية من الدولة تعظيم شأن الأحزاب من خلال أطر قانونية تمثل منظومة فعالة لدمج القائم منها، ما يزيد انتشارها على الأرض ويجعلها قادرة على جذب متحمسين جدد للعمل السياسي.
وهناك حاجة ماسة لإعادة النظر في التشريعات الخاصة بالعمل الحزبي، بما يربط بين مشاركتها في المجالس النيابية واستمراريتها، على أن يصاحب ذلك إطلاق العنان لحرية الرأي والفكر، والسماح بنمو المجتمع المدني غير المموّل من الخارج.
غير أن البعض يرى أن الأحزاب نفسها جزء من المشكلة القائمة، لأن الكثير منها يعاني من صراعات وانقسامات علنية وأزمات مالية، فضلا عن عدم تطور خطابها السياسي والركون لممارسة دور الظهور الشكلي بعيدا عن طرح رؤى سياسية حقيقية.
من بين هؤلاء المحلل السياسي، عصام شيحة الذي يعتقد أن هناك أزمة حقيقية في غالبية الأحزاب، تتمثل في انغلاقها على نفسها وعدم السماح لأعضائها بممارسة الديمقراطية رغم مطالبة السلطة بها، فضلا عن ضعف مواردها المالية بما يحول دون أن يكون لها دور مجتمعي فعّال.
وقال لـ”العرب”، “هذه الأمور تركت صورة سلبية لدى المواطنين تجاه الأحزاب، لكن توافر الإرادة السياسية للحكومة وإيمانها بأهمية الأحزاب ودورها كحائط صد لمواجهة أطروحات التيارات الدينية كفيل بإصلاح الواقع الحزبي، إذ يسمح قانون الأحزاب باندماجها وتجديد برامجها، لكنها بحاجة إلى مناخ سياسي يشجع على الاختلاف ويسمح بحرية الرأي والتعبير حتى تستعيد قواها مرة أخرى”.
ورأى آخرون أن إصلاح الشأن السياسي يتجاوز تقوية الأحزاب والسماح لها بممارسة دور أوسع، لأن المهم في هذه المرحلة أن تؤمن دوائر السلطة بضرورة إحداث تغيّرات اجتماعية سريعة تتماشى مع الإصلاحات الاقتصادية.
وأوضح الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، وهو من ذوي التوجهات الناصرية، أن تحقيق فكرة المجتمع الصاعد كفيلة بحماية الدولة المصرية من أصحاب الأطروحات المتطرفة، وعلى رأسهم جماعة الإخوان.
وانتهج عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تلك الفكرة، حيث تقهقر وانحصر خطاب الإسلام السياسي نتيجة تحقيق نظام الحكم إصلاحات اجتماعية جذرية، تبعتها نهضة فنية وثقافية.
وأشار شقرة، في حديثه لـ”العرب”، إلى أن نموذج الديمقراطية بنسختها الغربية غير ملائم لمصر، لأنها تعاني ارتفاع نسبة الفقر والأمية، وأي انتخابات يتم إجراؤها لن تؤدي إلى اختيار الأفضل، إنما الأكثر خبرة في استغلال الأمّيين والفقراء والأقدر على شرا ء الأصوات.
ورأى أن تحقيق مكاسب اجتماعية من عدالة وشفافية وتكافل للفئات الأكثر فقرا، خير ضمان لتماسك المجتمع وعدم انجراف البعض وراء الدعوات المتطرفة خلال المرحلة المقبلة.
إذا كانت الحكومة قدمت على المستوى الاجتماعي، برامج جديدة ارتبطت بنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي مثل “تكافل وكرامة” لرعاية الأرامل وغير القادرين على العمل، لكن البعض يرى أنها لم تقم بسياسات إيجابية على الصعيد الاجتماعي، تهم الطبقة الوسطى، رغم كونها الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية.
سياسات إصلاح شاملة
شدد محمود أباظة، رئيس حزب الوفد الأسبق، على أن إحياء الحياة السياسية في مصر يمكن أن يتم بعدة أدوات وتصورات ورؤى أشمل من تقوية ودعم الأحزاب، فمثلا، هناك حاجة ماسة لخلق فرص عمل جديدة، وتوفير مناخ جاذب للاستثمار، ومعالجة المعوقات البيروقراطية، فضلا عن تدشين برنامج قومي للتدريب وتأهيل ملايين الخريجين لسوق العمل الصناعي.
ولفت لـ”العرب” إلى أن الصيغة المعمول بها في مصر منذ عام 1954 هي أن القوات المسلحة خط الدفاع الأهم، لكنها تمثل الخط الثاني، لأن هناك تشكيلا سياسيا وطنيا يتزعمه رئيس الجمهورية يمثل الخط الأول للدولة، وهو ما كان موجودا خلال عهدي عبدالناصر وأنور السادات تحت هيئة الحزب الواحد الممثل في الاتحاد الاشتراكي وحزب مصر.
تطور الأمر خلال عهد الرئيس حسني مبارك إلى الحزب الوطني، في مواجهة أحزاب سياسية أخرى شبه مقيدة الحركة، لكن الأزمة الآن، هي أن مصر منذ ثورة 30 يونيو 2013 بدون خط دفاع أول يتمثل في التشكيل السياسي القادر على مواجهة أي هجوم، وهو وضع لا يصح أن يستمر.
وأضاف أن دعوات الخروج والثورة لم تلق استجابة لأن معظم المصريين، خاصة في الريف يرفضون الفوضى ويعتبرونها عدوا لهم. كذلك، فإن معظم التجار والصناع والسائقين وأرباب الحرف اليومية يخشون الاضطرابات التي تهدد أرزاقهم.
لدى فريق آخر، قناعة بأن إنعاش الحياة السياسية قد لا يصب في صالح الاستقرار خلال مرحلة بناء الدولة الجديدة، ومواجهة التحديات غير المسبوقة التي تواجهها، لأن السماح بالمزيد من حرية الرأي قد يسمح بتسلل أفكار مثيرة، ويساهم في إذكاء روح التمرد لدى المجتمع.
وأكد جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان (جنوب القاهرة)، أن مصر لا تواجه أزمة سياسية، إنما مشكلة إعلام في المقام الأول، مدللا على ذلك بأن الدولة تبدو كسيارة تتحرك على إطارين، الأول إطار القرار الرئاسي، وهو متحقق ومتميز الأداء، والإطار الثاني هو آلية القرار الاجتماعي، وهذا ما يحتاج إلى اهتمام وتركيز شديدين، لأن هناك أدوات عديدة للقرار الاجتماعي غير مفعّلة خاصة في الإعلام والثقافة.
وضرب مثالا على ذلك، بأن وزارة الثقافة تمتلك فروعا لها في معظم المدن والمحافظات باسم قصور الثقافة، لكنها لا تمارس أي دور في احتضان طاقات الشباب وتوجيهها بما يعضد الدور المُجتمعي اللازم لمساندة القرار السياسي.
وأوضح عودة لـ”العرب”، أن الأداء الذي تحققه الحكومة على المستوى الاقتصادي يعكس أن الدولة تستهدف تحقيق نتائج طويلة المدى، لكنها لم تلتفت من البداية لفكرة الترضية المجتمعية، كهدف قصير المدى.
وتبدو معظم السياسات عظيمة الأهداف على المدى الطويل، وكثيرا ما تثير الغضب على المدى القصير، ومصر لديها تشريعات وهيئات ومؤسسات تحتاج إلى تفعيل دورها دون تغيير للعبة السياسية، على رأسها الأحزاب التي لا يعرف منها الناس سوى أربعة أو خمسة، بالتالي فالحكومة بحاجة إلى تفعيل دور المؤسسات القائمة فعليّا، سواء إعلامية أو ثقافية أو اقتصادية أو حزبية، لتكون حائط الصدّ أمام محاولات هدم الدولة.
وأصبح الانفتاح السياسي وتوسيع قاعدة الحريات العامة وتخفيف المعاناة عن الشريحة الواسعة من المواطنين هي المداخل الحقيقية لقطع الطريق على جماعة الإخوان التي تعمل على توظيف معالم الارتباك في النسق الحكومي المصري، وسيظل ذلك الشبح مخيما طالما عجزت أجهزة الدولة عن سد الثغرات المجتمعية التي ينفذ منها الإخوان وأقرانهم في الداخل والخارج.