الرموز الدينية والصراع الصامت
الحرب السورية وما أيقظته من مظاهر الصراع المذهبي والطائفي، أخرجت الطائفية من معيارها الديني وحولتها إلى حالة ولاءات سياسية يقودها استغلال المشاعر وتعزيز الفرقة المجتمعية وبث الرعب من الآخر، وأسقطت بجزء كبير افتراض “سوريا الجامعة” والغنية بثراء روافدها الثقافية وتعددها، بعد أن أصبحت الطائفية مذهباً وأيديولوجيا وهوية لا يمكن الاختباء منها خلف أصابعنا.
تركت الحرب آثارا قاتلة وشرخا كبيرا في بنية المجتمع السوري، وغيرت طريقة تفكير الأفراد وأعادت هيكلة شخصيتهم حسب انتمائهم الديني الطائفي، وعبّدت الطريق نحو إدارة صراعات وحروب دينية لا منتهية ظاهرة أو خفية. وإذا ما استثنينا الحجاب على أنواعه، فتعبير الأفراد عن انتمائهم الطائفي الذي كان محاولات خجولة أو “محرّمة” في المجالين السياسي والاجتماعي نتيجة شمولية النظام، شهد تفجيرا صارخا في إظهار اختلاف الأفراد والأديان والانتماءات، وتمظهر كصراع صامت بين الرموز الدينية والأيقونات المعلقة على الأعناق والأيدي والوشوم على الأجساد، والتي تحمل رسالة حاسمة عن المعتقدات الدينية، مثل سيف علي بن أبي طالب “ذو الفقار”، و“الخلعة” الشريطة الخضراء للشيعة والعلوية، والنجمة الدرزية بألوانها الخمسة (الخمسة حدود) في عقيدة التوحيد، والصلبان، والسبحات بمغزاها الديني، و“الزبيبة” (طبقة الجلد السوداء التي تتشكل على الجبين للدلالة على مسلم شديد التديّن)، أو العبارات المرافقة لحزب الله “الموت ولا المذلّة”، أو صور الموت القادم في شكل جمجمة أو مسدس وطلقة وغيرها من رموز.
ظاهرة الرموز الدينية بجملتها التي باتت تشكل الهوية العلنية للأفراد لا يمكن النظر إليها كحالة عابرة ستنتهي بتوقف القتال، ولا يمكن حلّها بقرار سلطوي، أو مؤتمرات سياسية على طاولة حوار سويسرية وبعض المصافحات بين “المعارضة والنظام”، أو إلصاقها بـ“داعش” والعنصر الغريب والجهاديين الأجانب، وإنه حالما يعودون إلى أوطانهم ستتلاشى لطخة الطائفية.
فالرموز الدينية بتعبيرها عن حرية المعتقد في حالة السلم لها وظيفتها كوقود في نار الصراع، ولها تبعاتها الخطيرة إذ غالبا ما يكون الشباب الضحايا الفعليين لهذه الرموز، فما تشكله من انتماء روحي يبرز طوائفهم المختلفة يدفعهم في الحد الأدنى إلى التقوقع والانغلاق وبالتالي الإحجام عن تقبّل الآخر والخضوع لفكرة السلطة المطلقة الطائفية والمذهبية، ورغم أن تقديم هويتهم من خلال تلك الرموز قد لا يتجاوز بنظر بعض الشباب أكثر من إظهار التفرّد والاختلاف، تكون لدى الآخرين إظهارا للتفوق والسيطرة، إذ يحق لهم مالا يحق لسواهم.
وتتجلى في العديد من الرموز الصارخة كالبدلة العسكرية التي أصبحت رمزاً للقهر والذل على الحواجز المنتشرة بدل أن تكون ضماناً للحماية، واللحية التي تجاوزت حالة الدين والتديّن وباتت رمزا للكفاح ضد النظام السوري، وفي أسماء ورايات الفصائل الجهادية والإسلامية بدلالتها الدينية ورمزيتها التي تفيد باتباع أصحابها الشريعة وأنهم وحدهم على صواب، عدا عن كونها تتجاوز حدود الزمن المليء بالانكسارات إلى زمن آخر زاخر بمشاعر الانتصار والغلبة.كما أن التعبير من خلال الرموز لا يقتصر على الجانب الديني أو السيطرة إنما على إظهار الرفض لأوجه الصراع السوري، وهو ما أقدمت عليه الأقليات كالمسيحيين والدروز في التعبير عن أنفسهم وسط الفوضى، حملوا رموزهم الدينية للدلالة على انسحابهم من خوض حرب لا يعتبرونها حربهم، ومنعوا أولادهم من الاشتراك بالقتال.
المقتلة السورية بأبعادها الاجتماعية والسياسية، أنتجت حالة واسعة من الانقلاب في المفاهيم والأفكار والمسلمات التي شكلت البنية المعرفية لأبناء سوريا الذين أثبتوا على مدى حقب طويلة من الزمن قدرتهم على الوئام رغم الاختلافات الطائفية، وجعلت التربة السورية مهيأة لامتصاص كافة أنواع الاستقطاب الطائفي والانغماس فيه، مكرسة الأيديولوجيات الضيقة والتي تحولت إلى منظومة من القيم العنصرية المذهبية والطائفية المتحكمة بسلوك الكثيرين وتم التعبير عنها في صراع الرموز والأيقونات الصامتة وما تفضحه من حالة التنافر والعنصرية الغارقة في قلب المجتمع السوري، والتي تستلزم “عقدا اجتماعيا” جديدا عابرا للطوائف، فمحاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع أشكال التعصب، وهذا الأمر يتطلب شجاعة كبيرة وزيادة في مستوى الوعي بأهمية المجتمع المدني المتعايش خارج إطار القبليات والعصبيات والطائفيات.
كاتبة سورية