الرحلة العربية القديمة سياحة ثقافية بالمفهوم المعاصر للكلمة

مرّ أحمد بن فضلان بن العبّاس بهذه البلدان مثل السائح الثقافي اليوم الذي يدوّن بعد عودته إلى بلده مشاهداته وملاحظاته حول عادات الشعوب وتقاليدها وطقوسها “بدءا، كما يقول، من مدينة السلام إلى فارس، بخارى الجرجانية، الغزية، البنجاك، الباشخراد ثم الصقالبة، الروسية والخرز، وهو ما ينسجم تمام الانسجام مع طبيعة الرحلة بوصفها سياحة ثقافية كما يعرّفها حسين محمّد فهيم “إن الرحلة نوع من الحركة، وهي أيضا مخالطة للناس والأقوام”.
وتتمثل طرافة رسالة ابن فضلان باعتبارها أثرا سياحيا ثقافيا في الحضارة العربية الإسلامية القديمة في كونها من أقدم ما وصل إلينا عن بلاد الروس، بل إنّ الإنسانية لا تعرف رحالة سبقه إلى هذه البلاد ما عدا أوتير النرويجي الذي زار الإقليم الواقع شمال روسيا على ضفاف البحر الأبيض الروسي قبل ابن فضلان بنحو ستين سنة، وهذا ما جعل رسالته تحظى بعناية خاصّة، بحيث ترجم المستشرق الألماني فرهن ما ورد منها في معجم البلدان لياقوت الحموي الخاص بالخزر إلى اللغة اللاتينية سنة 1822 والفصل الخاص بالروس إلى اللغة الألمانية سنة 1823 قبل أن يهتمّ بها الرّوس أنفسهم ويتمكنوا من تصدير نسختين عن النسخة الأصلية الخطية التي عثر عليها بمدينة مشهد في إيران ونقلتا إلى بترسبورغ تحت إشراف المعهد الآسيوي سنة 1924 لتترجم لاحقا إلى اللغة الروسية لأهميتها القصوى بالنسبة إليهم واحتوائها على معلومات مهمّة حول ثقافتهم وتاريخهم ظلّت مجهولة بالنسبة إليهم.
إنّ ما يجعلنا نعتبر رحلة ابن فضلان رحلة سياحية ثقافية حتى وإن كان مقصدها الأساس سياسيا دينيا ودبلوماسيا يتمثل في مساعدة البلغار على تشييد حصون ليحتموا بها من ملوك الخزر، وهم من أصل يشبه البلغار وكانت مملكتهم عند مصبّ نهر الفولجا ويتبعون الديانة اليهوديّة ويعتبرون بلاد البلغار تابعة لهم ويخطّطون لاسترجاعها، هو عدم ذكر ابن فضلان رغم التدقيقات والتفصيلات التي أدرجها في رسالته لنتائج رحلته من الناحيتين السياسية والعسكرية وانشغاله على العكس من ذلك كلّيا بحضارة البلغار والرّوس وثقافتهما: عاداتهما وتقاليدهما في الموت والزواج والطعام واللّباس وغيرها دون أن يهمل كذلك ثقافات بعض البلدان الأخرى التي مرّ بها في ذهابه وإيابه مثل فارس وتركيا.
|
وإذا كانت السياحة الثقافية في تعريفها الحديث تشترط أوّلا وقبل كلّ شيء ألاّ يظلّ السائح منعزلا عن سكّان البلد الذي رحل إليه، بل ينبغي عليه، وهذا شرط من الشروط التي لا غنى عنها حتّى يحقّ له أن يتمتّع بصفة سائح ثقافي، أن يكون منغمسا في الحياة اليومية لأهل البلد المضيف يرصد أدقّ جزئياتها وتفاصيلها الدقيقة.
كما أنّ عادتهم في الأكل تختلف بما في ذلك على موائد الملوك “وقد أخذ ملكهم سكينا وقطع لقمة من اللّحم المشوي وأكلها، ثم مد بعضها إلى غيره فلا يمدّ أحد بيده إلى الأكل حتّى يناول الملك قطعته وكان كلّ من يأكل من مائدته لا يشركه فيها أحد، ولا يتناول من مائدته غيره شيئا: كما لا يفوت ابن فضلان أن يلاحظ “أنّ هؤلاء القوم يأكلون لحم الدابّة وأنّهم لا يجدون موضعا يجمعون فيه الطعام فيعمدون إلى آبار يحفرونها في الأرض ويجعلون فيها الطعام ولا تمضي عليه أيّام حتّى يتغيّر وينتن” ولا شكّ أن المحتوى السياحي الثقافي الذي تتضمّنه رسالة ابن فضلان هو من الغزارة، ما لا يمكن الإحاطة به إلّا في دراسة معمّقة.
غير أنّنا نجد في تقديم سامي الدهان لرسالة ابن فضلان بعد أن طواها طولا وعرضا وحقّقها وقرأ معظم ما كتب حولها ما يدعّم اعتبار الرحّالة القدامى بمثابة السائحين الثقافيين بالمفهوم المعاصر للكلمة “نرى أن الرجل قد صوّر الرحلة والعادات والتقاليد والحياة والأخلاق في ذلك العصر في مختلف المناطق التي مرّ بها أو أقام فيها فلم يغفل كثيرا ممّا يحتاج إليه ذلك الزمان وكان دقيق الملاحظة يصف الحكام والأمراء ورجال الشعب على حدّ السواء ويرسم الهيئات والوجود على إيجاز الرسالة وقصرها”.