الربيع العربي: خريف وشتاء كامنان في الجوهر وربيع زائف في المظهر

التطاحن الذي شهدته منطقة عفرين السورية (ذات هوية كردية ومحتلة من قبل تركيا) في الآونة الأخيرة بين المجموعات الإسلامية الراديكالية -كهيئة تحرير الشام (النصرة) والفيلق الثالث التابع لما يسمى بالجيش الوطني المعارض، والتي تعتبر مجتمعة من أدوات ورموز وإفرازات “الربيع السوري”- حول السلطة والنفوذ والامتيازات، وعلى مرأى ومسمع من الجيش التركي وتحت إشرافه، يحيلنا مرة أخرى إلى السؤال الأهم في هذه المعمعة وهو: هل ما جرى ومازال يجري في سوريا والبلاد التي اكتوت بويلات ما بات يسمى شططا بـ”الربيع العربي” منذ 2011 كان ثورات؟
إذا كان كذلك، فعن أيّ ثورات نتحدث؟ ديمقراطية ليبرالية أم إسلامية أصولية؟ بمعنى هل هو ربيع ديمقراطي ليبرالي أم ربيع أصولي إسلامي؟ بطبيعة الحال، الربيع الديمقراطي الليبرالي في نظر الإسلام السياسي هو خريف وشتاء. والربيع الإسلامي في نظر الليبراليين هو خريف وشتاء قارس وجاف وقاحل.
وفقا للمفكر السوري هاشم صالح، فإن الفيلسوف التونسي ميرزا حداد والمحاضر في الجامعات الفرنسية أجاب عن هذا السؤال المفصلي منذ 2011 بقوله “هذا الربيع سوف يتحول إلى خريف بل وشتاء أصولي قارس. فالمستفيد الوحيد منه الذي سيقطف ثمرته هو الحركات الإسلاموية”. لكن مصطلح “الشتاء العربي” كوصف بديل عن “الربيع العربي” يعود إلى عالم السياسة الصيني تشانغ وي وي أثناء مناظرة حدثت بينه وبين المفكر الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما في يونيو 2011.
"الربيع العربي" الموصوف من قبل البعض بـ"الديمقراطي الليبرالي" تحوّل إلى شتاء إسلامي أصولي عنيف
كان جوهر تلك المناظرة يدور حول اعتقاد فوكوياما الجازم بأن ما حدث آنذاك في بعض الدول العربية، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان ربيعا جليا من أجل الإتيان بالديمقراطية، وأن ذلك الربيع المزعوم سينتقل لاحقاً إلى الصين. بينما اعتقد تشانغ وي وي بأن ما كان يحصل ليس سوى شتاء عات لن يؤدي فقط إلى المزيد من الفوضى والتبديد وإنما سيقوض ما تم بناؤه حتى الآن على مدى العشرات من السنين.
لاحقاً، برهنت الأحداث التي عصفت بدول “الشتاء العربي” على ترجيح الكفة لصالح الرأي المنسوب إلى فريق حداد وتشانغ وي وي ومن شابههما على حساب انكماش الرأي المقابل. إن تحول “الربيع العربي” الموصوف من قبل البعض الواهم بـ”الديمقراطي الليبرالي” إلى شتاء إسلامي أصولي عنيف ودموي بدعم واحتضان من القاعدة الشعبية يدفعنا إلى تسليط الضوء على ماهية هذا التبدل الجذري والدراماتيكي من الربيع إلى الشتاء، فيما إذا كان بحق وحقيقة تبدلاً جذرياً، أم أنه كان منذ الوهلة الأولى شتاء كامناً في الجوهر وربيعاً زائفاً في المظهر.
منذ البداية كان ما يسمى خطأً بـ”الربيع العربي” الديمقراطي المزهر الزاهي، الذي طالما عشّش في مخيلة القلة القليلة من التواقين إلى التغيير، خريفا حزينا وشتاء قاتما جرف ومازال يجرف معه ما تبقى من آمال تهشمت على صخرة العقل المحلي السقيم ومصالح وسموم الدول التي تغلغلت في سوريا وأرجعتها عقودا إلى السالف الغابر أكثر مما كانت خائرة منزوية ومتأبدة فيما وراء الوراء تحت نير واستبداد حكم الأسد المافيوي.
وأثبتت معظم التطورات اللاحقة والجارية أنه لم يحدث ما يمكن تسميته بالانعطافة الحادة والمباغتة والصادمة من الربيع إلى الشتاء كما يحلو للبعض تأويل ذلك. والسبب أنه كان منذ البداية شتاء أصوليا قارسا في الجوهر، إلا أنه أُريد له أن يُصوَّر ويوصف بالربيع الديمقراطي الليبرالي من قبل الغرب الذي أوجد فيه ضالته وكان أول من وصمه بالربيع مع أن نسائمه الأولى كانت أصولية إسلامية شتوية عاصفة، فضلا عن أنه ولد في عز الشتاء الذي يلي الخريف. وزمنياً وفكريا الخريف لا يولد ربيعاً.
معظم التطورات اللاحقة والجارية أثبتت أنه لم يحدث ما يمكن تسميته بالانعطافة الحادة والمباغتة والصادمة من الربيع إلى الشتاء كما يحلو للبعض تأويل ذلك
لكن المفارقة هنا تكمن في أن الغرب يعتبر صعود الإسلام السياسي في الدول التي اندلعت فيها أحداث “الخريف والشتاء العربيَّيْن”، ربيعاً يستوجب المؤازرة والاحتضان، والذريعة القديمة – الجديدة هي: هذه هي إرادة الشعوب ويجب احترامها. وهي نفس الذريعة الهجينة المسمومة التي سوقها الغرب إبان المؤامرة الغربية على إيران في 1979 عندما تم خلع الشاه تدريجياً وتنصيب المفتعل والمختلق الخميني. ألم ينافح فلاسفة مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وميشال فوكو عن “ثورة” الخميني؟! ألم يصف أندرويونغ مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سنة 1979 الخميني بالقديس والاشتراكي والديمقراطي وبأن أهداف “ثورته” ملهمة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟! أراد الغرب تكرار نفس السيناريو الكارثي خلال قلاقل “الخريف والشتاء العربييْن” مع تنظيمات الإخوان المسلمين.
من جملة الأسئلة المصيرية الحاسمة التي غابت عن بال السطحيين: هل هناك أرضية خصبة وقابلية للثورة من أجل الديمقراطية والليبرالية في البلدان التي عاصرت تلك الأحداث أم أن مقومات وعوامل تلك القابلية كانت ومازالت مفقودة؟ وبالتالي من العبث راهناً الدعوة إلى ثورة تستجلب الديمقراطية والليبرالية في بيئة تناصب العداء تاريخيا وعلى مختلف الأصعدة التراثية والثقافية والاجتماعية لمفهوم الديمقراطية، بل وتتهمها بأنها بدعة غربية لا تصلح للبيئات العربية وتجب محاربتها لكونها تستهدف القضاء على الخصوصية العربية والإسلامية.
يلخص هيغل حيثية القابلية للشيء أو المطالبة به في عامل الوعي؛ يقول “إن الحاجة هي وعي النقص”، أي أن الحاجة إلى شيء ما لدى هيغل تنشأ من الوعي بنقص ذلك الشيء. ويقول لينين، قائد ثورة أكتوبر 1917 التي أطاحت بالحكم القيصري في روسيا وبالحكومة المؤقتة التي انبثقت في نفس العام كنتيجة لثورة فبراير، "إن الثورة غير ممكنة دون توفّر الحالة الثورية، ولكن ليس أي حالة ثورية تؤدي إلى ثورة".
عند إسقاط مفهوم الوعي الهيغلي ومبدأ الحالة الثورية اللينينية على حالة البلدان التي شهدت “الخريف والشتاء العربييْن”، نصل إلى نتيجة مفادها غياب الوعي والحاجة إلى الديمقراطية لدى معظم الجماهير التي خرجت إلى الشوارع معبرة عن سخطها على المعاناة التي كابدتها على مدى عقود من الزمن. لكن لا يجوز الخلط بين مشروعية الإحساس بالمعاناة والتعبير عنها وبين مشروعية وأحقية طرق التعبير للانعتاق من تلك المعاناة التي قد تصل إلى الاستنجاد بالتراث والماضي للتخلص من آلام الحاضر. وبالتالي لا يمكن تبرير وتصوير كل محاولة انعتاق من الاستبداد الراهن على أنها مجدية وضرورية وديمقراطية لمجرد أنها أعلنت التمرد على الظلم الراهن حتى ولو اقتضى الأمر الاستنجاد والإتيان بنموذج ظلم قديم؛ بمعنى لا تمكن مباركة الأصولية الإسلامية ومحاولة دمقرطتها وشرعنتها على الطريقة الاستخباراتية الغربية لمجرد أنها تحارب -ولأجندات مصلحية وسلطوية- ما يمكن تسميته تجاوزا بالاستبداد العلماني.
إن الثورات تقاس بالنتائج والمآلات وليس بالأمنيات والفرضيات والتأويلات غير المنطقية، وما يسمونه بـ”بالربيع العربي” -وهي تسمية باطلة- لم يفرز سوى أدوات وتجليات الإسلام السياسي الذي يتطلع إلى حكم المنطقة وفق منطق العصور الغابرة. وما تشهده المنطقة منذ 2011 ما هو إلا خريف وشتاء أصوليّيْن قاحلين لم يعجزا فقط عن إنتاج آليات فكر وتغيير مواءمة للعصر، وإنما ولَّدا أيضا آليات فكر وتغيير رجعية بحيث طفت على السطح في النهاية تمظهرات الإسلام السياسي الذي يجاهد في سبيل حكم المنطقة وتنميطها وفق عقلية عصور خلت.