الذكاء الاصطناعي ومرحلة ما بعد الإنسانية

من المخاطر الحافة للذكاء الاصطناعي التفوق على البشر، حيث يستحيل على البشر التحكم بـ(النانو) و(البيو) تكنولوجيا من دون ضوابط معرفية، وبداهة أن تتحول هذه التقانات إلى مصدر تهديد بشري.
الجمعة 2024/12/20
من يحكم العالم مستقبلا.. الإنسان أم الذكاء الاصطناعي

بعد أن أصبح تهجين الإنسان والآلة أمرا واقعا، كيف سيكون وضع الإنسان في المستقبل؟ هل وجوده ضروري أم زائد عن الحاجة؟ وإن كان الخلاص من المعاناة الناجمة عن الأمراض والآلام من منظور الذكاء الاصطناعي ممكنا، فهل نحن إزاء حلول تكنولوجية أم يوتوبية؟ وإن كانت تقنيات “النانو” الجزئية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية تشكل بنى بديلة لحركة “الإناسة” أو الإنسانية، فهل يمكن أن تصبح كائنات ما بعد الإنسانية كائنات ما فوق بشرية من حيث البقاء على قيد الحياة بحيوات “جينية” متجددة؟

وإن كنا إزاء تقدم تكنولوجي مستمر لا يتوقف، فهل سيحقق لنا التفرد التكنولوجي “الخلود السبراني” لتجاوز الحدود البيولوجية لأجسامنا وعقولنا، كأن نعيش لسنوات طويلة نسبيا أو أبعد من ذلك وفق ما يسميه عالم الاجتماع وليم باينبريدج بـ”الخلود السبراني”؟ وما يعنينا أكثر: هل سيتقاطع الذكاء البشري مع الذكاء الاصطناعي في المستقبل؟

راي كروزويل: روبوتات النانو تتيح استنساخ البشر لأنفسهم

يتوقع المفكر المستقبلي راي كروزويل في كتابه “التفرد أقرب” (The Singularity Is Nearer) أن بحلول عام 2040 ستتيح لنا روبوتات “النانو” التفاعل مع العوالم الافتراضية، إيقاف الشيخوخة، توسيع مداركنا الذهنية، واستنساخ البشر لأنفسهم، وبذلك سيتخطى الذكاء الاصطناعي قدرة الدماغ البشري بـ”تكنولوجيا الحياة” ويحقق التقدم بـ”التفرد التكنولوجي”.

ونرى أن ما بعد الإنسان مرحلة انتقالية لتنشئة علاقات جديدة بين الإنسان والآلة، لإنتاج كائنات جديدة أيضا محمية بجدار ناري ذي مزايا أمنية مدمجة مضادة للفايروسات. ولكن إنجازات ما بعد الإنسان تبقى معرضة للخطر، وذلك بسبب هيمنة مفهومية ما بعد الإنسان، ونعني به ما يتجاوز طاقات الإنسان نفسه من قدرات ذهنية وعقلية، لهذا ينبغي الانتباه إلى خطورة دمج الإنسان بالآلة، وما يتعلق منها بإشكالية الطبيعة المركبة بـ”خلود الإنسان” وتفوق الآلة عليه، وذلك لمحدودية قدرته على قهر الطبيعة، وفي هذه الحال كيف يمكن التوفيق بينهما؟

لقد تنبه المفكر الألماني أولريش بيك إلى أن “مجتمع المخاطر” أصبح يحمل بذرة تطوره وهلاكه في آن، لأننا في “مجتمع المخاطر” نضطر إلى أن نعيش في وضع مهدد بالتناقضات السياسية والأزمات الأخلاقية، لهذا ينبغي أن نفكر باللامفكر به: كيف يمكن الخروج من مجتمع هذه المخاطر وتجاوز أزماته؟

يقول المفكر أولريش في كتابه مجتمع المخاطر “المجتمع العلمي التكنولوجي الذي طالما تميز بالكمال، أطلعنا بطريقة ساخرة على الجانب المظلم للأمر، نحن لا نعرف ما لا نعرفه، ومن هنا بالضبط تنشأ الأخطار التي تهدد البشرية.”

وذهب عالم الاجتماع الفرنسي جان فرانسوا ليوتار إلى أن “موت الأيديولوجيات” أو “الحكايات الكبرى” تشكل “نهاية الحداثة” بولادة ما بعد الحداثة، التي مهدت لـ”ما بعد الإنسان”، أي “الإنسان الجديد” أو “السيبورغ”، لإرساء مشروع ما بعد الإنسانية، بما في ذلك تقويض النزعة الإنسانية بواقعية الكوانتم، ونسبية الحقيقة، والواقع الفائق بوصفها بنى معرفية افتراضية متحولة في سياق التطورات العلمية والتكنولوجية العابرة للإنسانية.

ويرى الأكاديمي السويدي نيك بوستروم في كتابه “الذكاء الفائق: المسارات والمخاطر والإستراتيجيات” أن ثمة مخاطر وجودية ناجمة عن “ذكاء يتجاوز بدرجة كبيرة الأداء المعرفي للإنسان في جميع مجالات الاهتمام”، قد تؤدي إلى فناء البشرية بسبب الاستخدام الخاطئ للذكاء الاصطناعي كاستنساخ الجينات والعقول البشرية.

◄ ثمة من يرى أن الذكاء الاصطناعي أكثر حيادية من ذكاء البشر، ولكن ينبغي أن ندرك بأنه سائر نحو انتهاك خصوصية الإنسان وسر وجوده، والتنبؤ بما يفكر به

كما نعد ظهور الروبوت من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ونعني بها: النانوتكنولوجي والبيوتكنولوجي، وهما من أهم مظاهر تجاوز الإنسان الحالي، وعبور حاله الراهنة في الوجود، ولكن ليس بصيغة تجاوز الإنسان عن طريق إرادته من منظور نيتشه، وإنما على وفق مفهوم “التفرد التكنولوجي” أو “الذكاء الفائق”.

إذن ما بعد الإنسان قائم على دمج التكنولوجيا بالجسم البشري أو بجسم الإنسان، ودمج ما هو طبيعي بما هو صناعي من خلال الانتقال من إنسان عادي إلى إنسان جديد (سيبورغ) نصفه آلة ونصفه الآخر بشر، ويمكن الاصطلاح على هذا التحول بـ”الإنسانية العابرة” (Transhumanism)، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في دراسة عالم الجينات جوليان هكسلي في كتابه “ما بعد الإنسانية” الذي استوحى أفكاره من “الإنسان المتفوق” لنيتشه، أي الإنسان الاستثنائي الذي لا يشعر بالألم والمعاناة، ويتجاوز القدرات البشرية، كما ظهر هذا المفهوم في مقال إيهاب حسن “برومثيوس: ثقافة ما بعد الإنسانية”، للاستدلال على طور التشكل والتطور الدائم من خلال الاستنساخ أو التعديل الجيني بوصفه من أهم نتائج الثورة البيوتكنولوجية.

وتشكل ما بعد الإنسانية قطيعة معرفية (إبستمولوجية) مع مرحلة النزعة الإنسانية (Humanism)، والتحول نحو التكنو – إنسانية، والتأسيس لنموذج بديل بحيوات تقنية – إنسانية جديدة. ومن خلال ذلك يمكن أن نلحظ:

أولا: إن الذكاء الاصطناعي دخل مرحلة التعلم الفائق بوساطة المدخلات وما تنتجه من مخرجات مستوعبة لها متقدمة عليها بصيغ استباقية – استشراقية – تنبؤية بما سيحدث في المستقبل، وذلك بدمج البنى العلمية في البيانات المعلوماتية، وبضمها الخوارزميات في العصر الرقمي.

ثانيا: إن الذكاء الاصطناعي يتجه نحو دمج الجسم البشري والآلة التقنية باستخدام شرائح إلكترونية، يمكن التحكم بها، وإمكانية توظيف الجينات البشرية بشرائح رقمية، وتحويل الأفكار المتخيلة إلى مدونات بيانية جديدة.

أولريش بيك: "مجتمع المخاطر" يحمل بذرة تطوره وهلاكه

إذن صار بإمكاننا أن نعيش التكنولوجيا الفائقة ما بعد الذكاء الاصطناعي والتفاعل معها، لأننا إزاء تكنولوجيا تتشكل بحيوات بشرية متحركة بذكاء معرفي بشري – تقني – رقمي، وثمة آلات تقوم بالتفكير نيابة عن البشر أولا، وتقوم بالعمل نيابة عنهم ثانيا، ولكن ماذا يحدث إن صار الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاء من البشر؟

من المخاطر الحافة للذكاء الاصطناعي التفوق على البشر، حيث يستحيل على البشر التحكم بـ(النانو) و(البيو) تكنولوجيا من دون ضوابط معرفية، وبداهة أن تتحول هذه التقانات إلى مصدر تهديد بشري، لأن هيمنة واتساع التقانة الناجمة عن الذكاء الاصطناعي قد تؤدي إلى البطالة والتدهور الاقتصادي والدمار البشري.

إذن، هل يمكن أنسنة الذكاء الاصطناعي بما يجعله أكثر استجابة لمعاناة الإنسان وتمثلا لقيم الإناسة في التفكير البشري، وخاصة في كيفية استخدام الأنظمة وآليات العمل في أداء المهام وفق التعلم الآلي أو التلقيم المعلوماتي، واستخلاص المعرفة من البيانات المخزنة؟ وإذا كان الذكاء الاصطناعي يتعلم من البشر، فماذا يفعل البشر في حال تفوق الذكاء الاصطناعي عليهم؟ أي بمعنى آخر: هل سيعالج مشكلات الإنسان من دون انحياز عرقي أو جنسي؟

لا نستطيع أن نخفي توجسنا من تطور الذكاء الاصطناعي مستقبلا، فقد حذر الاقتصادي بول رومر من المبالغة في تطور الذكاء الاصطناعي، وقال في مؤتمر “UBS” الآسيوي للاستثمار الذي عُقد في هونغ كونغ عام 2023 “الثقة الجامحة السائدة حاليا بشأن المسار المستقبلي للذكاء الاصطناعي عالية جدا، وقد لا تتناسب مع التطورات المستقبلية الفعلية، وقد تؤدي إلى خطأ فادح للغاية”، وذلك لانعدام “المواءمة في النمو الدائم على المدى الطويل بالاقتصاد العالمي ورفاه سكان العالم.”

وثمة من يرى أن الذكاء الاصطناعي أكثر حيادية من ذكاء البشر، ولكن ينبغي أن ندرك بأنه سائر نحو انتهاك خصوصية الإنسان وسر وجوده، والتنبؤ بما يفكر به، وتحليل الموجات الكهرومغناطيسية لدماغه، بما في ذلك “الوسواس القهري”. وقد يقوم الذكاء الاصطناعي بالتعويض عن ذكاء الإنسان بـ”ذكاء الآلة” لإنتاج حسابات وتوقعات أخرى، ولكن من دون تعليل لنتائجها السلبية.

وإن كان تهجين الإنسان والآلة ممكنا، فماذا لو كانت حيوية المهجن أكثر هجانة منها؟ وإن كان الذكاء الاصطناعي يُعنى بتحرير الإنسان من جسمه، فما إشكالية ذلك في المستقبل؟ إن هذه التساؤلات وغيرها مثيرة لإشكاليات أخرى بحاجة إلى أجوبة موازية لها.

12