الذئاب المنفردة سفراء التشدد في غرب قلق أمنيا

التساؤلات العديدة التي أثارتها حادثة صحيفة شارلي إيبدو الأخيرة، حول طبيعة هذه العملية الإرهابية وكيفية تنفيذها، وعدم تفطن الاستخبارات الفرنسية إليها بصفة استباقية، أماطت اللثام عن طارئ جديد يتعلق بأساليب عمل التنظيمات الجهادية، مفاده أنّها تشهد الآن تغيّرا جوهريا على مستوى أسلوب العمل وأسس التنظيم، لتتحول من تنظيمات هرمية مترابطة إلى خلايا مستقلة بذواتها، يصطلح عليها استخباراتيا بـ”الذئاب المنفردة”، ممّا يزيد من صعوبة اقتفاء أثرها والتصدي المبكر لأخطارها.
كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي يوم 15 يناير 2015 أنّ القبض على كريستوفر كورنل، قد تمّ على أساس اتّهامه بمحاولة قتل ضابط أميركي، حسب ما أفادت به وثائق المحكمة، التي أشارت إلى أنّ كورنل نشر تغريدة على موقع “تويتر” يؤكد من خلالها دعمه لتنظيم “الدولة الإسلامية”.
ما معنى ذئاب منفردة؟
يدلّ مصطلح “الذئاب المنفردة” الاستخباراتي على قيام شخص أو عدد من الأشخاص، غير المنظمين، أي أنهم لا يخضعون إلى تنظيم هرمي يتلقون منه التعليمات للقيام بعمليات إرهابية، بالتخطيط لعمليات إرهابية وتنفيذها ضمن إمكانياتهم الذاتية. وغالبا ما ينتمي هؤلاء المتطرفون إلى فئة الشخصيات السوية الاعتيادية التي لا تثير الشّكوك حول سلوكها وحركتها اليومية. وعادة ما تعود أصول الغالبية منهم إلى البلدان العربية والإسلامية.
ووفق هذا الطارئ التكتيكي، تتحول العمليات الإرهابية من عمليات واسعة تنفّذها تنظيمات ومجموعات منظمة إلى عمليات فردية ينفذها أفراد. ويمكن أن تتنزل هذه العمليات في إطار بحث المنظمات الإرهابية عن حلول لمواجهة مشكلة التمويل والنقص في القيادات الميدانية من الجيل الأول للقاعدة، الذين تقدّم بهم السن وخرجوا من الخدمة.
حيث تقوم عمليات “الذئاب المنفرد” عادة على مبدأ التمويل الذاتي المحدود واستخدام المواد التي تستعمل في صناعة المتفجرات والتي يمكن الحصول عليها من الأسواق دون إثارة أيّ نوع من الريبة.
كما أنّ هؤلاء العناصر لا يترددون على المساجد، ولا يرتدون “السروال الأفغاني” ولا يطلقون لحيّهم، كما أنهم يتقنون أكثر من لغة مع إجادة التعامل مع وسائل الاتصال والتكنولوجيات الحديثة. حيث أنّ المعلومات التي توفرها لهم شبكة “الإنترنت”، حول كيفية التحول من مواطن عادي إلى “جهادي مفخخ”، تعتبر مادة قيّمة من وجهة نظر القاعدة و”الجهاديّين”.
ولذلك تعمد المواقع “الجهادية” إلى تقديم معلومات مفصّلة بلغات أجنبية عديدة ومتنوعة، في إطار سعيها الدائم لاستهداف فئة الشباب في المجتمعات الغربية. من جهة أخرى، يعمد هؤلاء الجهاديون المنفردون إلى إيقاف جميع اتصالاتهم وحساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، قبل فترة من تنفيذ عملياتهم الإرهابية.
|
من جهة أخرى، فقد ظهرت عمليات “الذئاب المنفردة”، في وقت متأخّر، مع نهاية سنة 2009، باعتبارها البديل لعمليات تنظيم القاعدة المركزي. وفي هذا السياق، يجمع العديد من المراقبين على أنّ “القاعدة” لم تعد ذاك التنظيم المركزي الذي يعطي التوجيهات ويوفر التمويل، بقدر ما أصبحت أيديولوجية يمكن تبنيها من قبل فئة شباب في كلّ مكان وزمان.
وقد ظهر هذا النوع من العمليات بعد أن عجز التنظيم المركزي عن تنفيذ عمليات نوعية كبرى في البلدان الغربية، بعد تعرّضه لضربات قوية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها وبعد مطاردة أغلب قياداته في وزيرستان واليمن ومناطق عدة من العالم واصطيادهم غداة أحداث 11 سبتمبر 2001.
من جهة ثانية، غالبا ما تتسم عمليات مراقبة واقتفاء أثر “الخلايا الفردية” أو “الذئاب المنفردة”، كما يسميها مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي، بصعوبة أكثر رغم إجراءات المراقبة البشرية والتقنية المعتمدة في البلدان الغربية.
وهي تمثل تحديا حقيقيا بالنسبة إلى أجهزة الاستخبارات، أكثر من شبكات العمل على الأرض، لأن الأخيرة يمكن أن توفر لها بعض المعلومات والحقائق من خلال المراقبة والمتابعة، أما الخلايا الفردية فهي عصيّة نسبيا عن المراقبة، خاصة أنّ الشخص الواحد يمكن أن يكون فعّالا وبعيدا عن الأنظار، ويتلقى تدريباته ودروس صنع المتفجرات باستعمال وسائل بسيطة وغير محظورة عبر على شبكة الإنترنت.
وفي سياق متصل، يرى المراقبون أن الاحتمالات التي تفيد بتصعيد عمليات الخلايا الفردية في أوروبا والولايات المتحدة بسبب الشحن “الجهادي” عبر شبكة الإنترنت والفضائيات التلفزيونية، كثيرة ومتعددة وفي تنام مستمر. خاصة أنّ طبيعة المواجهة والصراع بين التنظيمات الجهادية وخصومها، تحوّلت إلى مواجهات استخباراتية غير تقليدية، تستخدم فيها التكنولوجيا والتقنية الحديثة.
لذلك أضحى جيل “القاعدة” الثالث يتسم بسرعة الحركة والمرونة في التنقل بعد استغلاله لهذه الوسائل الحديثة. ولذلك يرى الخبراء، أنّ هذه الخلايا الفردية تمثل اليوم أكبر تحدّ بالنسبة إلى أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية، لأنّها خلايا غير هرمية وغير تقليدية، ولا يمكن الوصول إليها من خلال اكتشاف تورّط أحد عناصرها.
كما يشدّد الباحثون على أنّ الخطب والمنشورات والصور المروّعة التي تتداولها شبكة الإنترنت عن الضحايا أو انتهاكات حقوق الإنسان، تمثل مادة جيدة لشحن مثل هذه الخلايا، باتّجاه تنفيذ عمليات انتقامية وانتحارية فرديّة في مجتمعاتهم وفي المجتمعات الغربية.
هذا وقد ذكرت شهادات وتحقيقات استخباراتية، أن بعض الخلايا المتوحدة تكون سوية ولا تجلب الانتباه. كما يشير عدد من المراقبين إلى أنّ التنظيمات “الجهادية” أعطت تعليماتها، عبر منتدياتها على شبكة الإنترنت، بضرورة التشبه بالمظهر الغربي، وحلق الذقن، حتى لا تثار حولهم الشكوك.
هل تغيرت تكتيكات الجهاديين؟
ما حصل مع وكالة الـ«سي آي إية» والاستخبارات الفرنسية، بعد حادثة شارلي إيبدو، يتنزل في خانة الفشل الاستخباراتي
الجماعات “الجهادية” اليوم لم تعد تنظيما مركزيا، كما كانت الحال في كل من أفغانستان والعراق، فقد تحولت إلى أيديولوجية متطرفة تقوم على تحويل السلفية، إلى آلية تكفير وقتل، أي أنها صنعت من عقيدة السلفية قالبا تنظيميا تحت مسمى “التوحيد والجهاد”.
وبذلك تحول تنظيم القاعدة الآن إلى أيديولوجيا “فكرية” متشظية تصعب السيطرة عليها بحروب تقليدية. وأكثر الفئات عرضة لهذا الخطر الأيديولوجي “الجهادي” التكفيري، هي فئة الشباب المهاجرين الذين يعيشون في الغرب، ويترددون على بلدانهم الأصلية ويعانون من فقدان الهوية. ولو تمّ استعراض عمليات الخلايا الفردية جميعها، لكانت خاضعة إلى هذا الاحتمال.
من جهة أخرى، تعتبر مناطق النزاع التي يشهدها العالم مصدر “إلهام” للشباب، لما تعرضه من صور الضحايا التي من شأنها أن تشحن تفكير الكثير من الشباب لكي يتحولوا في لحظة ما إلى خلايا فردية مفخخة في المجتمعات التي يعيشون في ظلها ويحسّون فيها بالاغتراب. ومن أبرز مناطق الصراع الآن نذكر سوريا وأفغانستان والعراق واليمن والصومال وليبيا وغرب أفريقيا.
لذلك، فإنّ فلسفة الخلايا الفردية اليوم، تخاطب الشباب من أصول عربية إسلامية في الغرب، وكذلك الشباب الذين تحولوا إلى الإسلام حديثا، ليكونوا محركات “جهادية” في مجتمعاتهم. وهنا يبرز دور المؤسسات الدينية في مواجهة هذا التطرف الفكري وهذه الجماعات السرطانية، من خلال عقد منتديات تكشف من خلالها زيف هذا “الفكر الجهادي”.
وهنا بالتحديد يكمن الدور الريادي الذي تقوم به كلّ من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في مواجهة الإرهاب، فكريا وفي معاقله، ودعمهما المتواصل لمختلف الدول التي تواجه معضلة التطرف.
متى بدأ نشاط الخلايا المنفردة؟
كانت بداية نشاط الخلايا المنفردة الفعلي، سنة 2009، عندما بدأ فيصل شاه زاد، (الباكستاني المولد، البريطاني الجنسية)، بالتخطيط لتفجير سيارة مفخّخة في يوليو 2010 بساحة التايمز سكوير في نيويورك.
من ثمّة جاءت محاولة الشاب النيجيري عمر الفاروق عبدالمطلب، بتفجير عبوة على متن طائرة أميركية متجهة من أمستردام إلى الولايات المتحدة عشية أعياد ميلاد عام 2009، وكذلك عملية المجند الأميركي من أصل عربي نضال حسن، الذي أطلق النار على زملائه في قاعدة فورد العسكرية في الولايات المتحدة خلال نفس الفترة تقريبا.
من ثمّة تعددت نماذج هذه الخلايا المنفردة مع ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتنوعت أماكن نشاطها وتوسعت لتشمل عدّة بلدان غربية، وأضحى خطرها يتجاوز كل الحدود والاحتمالات، خاصة إثر عملية شارلي إيبدو الأخيرة التي هزّت باريس، وما تبعها من عمليات معزولة شهدتها أرجاء متفرقة من فرنسا، أماطت اللثام مجددا عن خطر هؤلاء الأفراد الذين أثبتوا أنهم قادرون على التخفي ببراعة، والنجاح في تنفيذ مخططاتهم الإرهابية، ومن بين هؤلاء الأفراد الذين تم اكتشاف هوياتهم يذكر:
التنظيمات الجهادية وجهت تعليماتها إلى أعضائها، بضرورة التشبه بالمظهر الغربي وحلق الذقن حتى لا تثار حولهم الشكوك
* محمد مراح:
وكان رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية السابق، إيف بونيه، قد كشف عن تفاصيل جديدة في قضية محمد مراح، وفقا لتقرير بثته قناة العربية في 28 مارس 2012.
* أمادي كوليبالي:
* كريستوفر كورنل:
|
* همام البلوي:
نفذ عملية انتحارية في مقر وكالة الاستخبارات الأميركية في ولاية خوست الأفغانية في 25 ديسمبر 2009، أسفرت عن مقتل 7 عناصر من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية.
هل هنالك إخفاق استخباراتي؟
الخلايا المذكورة جميعها كانت تحت المراقبة، وقد ثبتت علاقاتها بالجماعات “الجهادية”، وكانت ترتبط في نفس الوقت بعلاقة مع الاستخبارات الغربية.
وفي هذا السياق، يشير المراقبون إلى أنّ لبّ القضية يعتمد على من يدير هذه اللعبة المزدوجة من طرف أجهزة الاستخبارات، أي الضابط ـ العميل المُشرف والمعني بإدارة مثل هذا النوع من العمليات، والذي يجب أّلاّ يكون عميلا حديث العهد في العمل الاستخباراتي، وأن يكون مطّلعا على عمليات إخضاع العميل المزدوج إلى عمليات اختبار وكشف ومراقبة فنية وبشرية، بين فترة وأخرى وألّا تتوقف تلك الاختبارات عند مرحلة معيّنة.
وأي قواعد تخالف ما سبق تُعتبر إخفاقا استخباراتيا، وهذا بالفعل ما حصل حتى مع وكالة الـ”سي آي إية”، وهو الآن يحدث مع الاستخبارات الفرنسية.
ولذلك فقد أكدت الاستخبارات الفرنسية والبريطانية مرارا، أنّ “الذئاب المنفردة” لا يمكن التنبؤ بها وتعتبر تحديا خطيرا، وهذا ما أكده منسق مكافحة الإرهاب في المفوضية الأوروبية جليوس دي كروشوف، في أعقاب حادثة شارلي إبيدو.