الديمقراطية المشوهة والدكتاتورية الظالمة في أفريقيا

كشف الموقف الغربي من انقلابين عسكريين وقعا في دولتي النيجر والغابون مؤخرا عن مفارقات عديدة في التعامل مع هذه التطورات، حيث ظهر نوع من الازدواجية الفاضحة أرخى بشكوك حول الموقف من الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، والتي تزايدت في السنوات الماضية ويمكن أن تشهد زخما الفترة المقبلة.
أدانت فرنسا، والعديد من الدول الغربية، الانقلاب الأول في النيجر ولا تزال تصمم على عودة الرئيس المنتخب، والمحتجز من قبل سلطة الانقلاب، محمد بازوم إلى منصبه كرئيس للبلاد، لكنها لم تدن القادة العسكريين في الغابون بالطريقة نفسها أو تعلن التمسك بعودة الرئيس المنتخب والمحتجز أيضا علي بونغو إلى منصبه.
هذان انقلابان في دولتين أفريقيتين لفرنسا نفوذ كبير ومتفاوت في كليهما، غير أن موقفها جاء مختلفا، حيث تخوض معركة سياسية حادة مع قادة الانقلاب في النيجر الذين رفعوا الحصانة الدبلوماسية عن السفير الفرنسي في نيامي وألغوا اتفاقيات أمنية وقعتها باريس مع محمد بازوم، وسلفه محمدو يوسوفي، لكن القيادة الفرنسية ترفض الانصياع وتطالب بعودة الرئيس المعزول بوصفه الرئيس “الشرعي”.
يمكن أن تكلفها هذه المعركة هزيمة منكرة كتلك التي واجهتها في كل من مالي وبوركينا فاسو العامين الماضيين إذا رضخت لخروج سفيرها من نيامي وسحبت عناصر من قواتها الأمنية من أراضيها، وتخسر واحدة من أهم المعاقل الأمنية والاقتصادية في منطقة الساحل الأفريقي.
التناقض في التعاطي مع الحكم العسكري ونظيره المدني يظل مخيما على كثير من المواقف الغربية، لأن القضية تتعلق بمصالح أكثر من كونها ثوابت أو نظريات سياسية
اعترف ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بوجود شبهات فساد في العملية الانتخابية التي جرت في الغابون أغسطس الماضي، وهو التصريح الذي بدا مبررا لقبول الانقلاب العسكري على الرئيس علي بونغو، بينما لم يتم التشكيك في نزاهة الانتخابات التي أوصلت بازوم قبل عامين إلى سدة السلطة.
المشكلة أن القيادات الغربية لم تتحدث عن شبهات فساد في انتخابات بوضوح إلا بعد أن ارتفعت أصوات المعارضة الغابونية، وكادت الأمور تخرج عن نطاق السيطرة، إلا أن تدخل الجيش في اللحظة الحاسمة أدى إلى ضبط الأمور، وحصل على ما يشبه المباركة الضمنية من فرنسا بشكل خاص التي شعرت أن أسرة بونغو آن لها أن تستريح وينزوي حكمها المباشر بعد نحو 56 عاما في الحكم.
مكث الوالد عمر بونغو بعد تنصيبه رئيسا بمساعدة فرنسا من عام 1967 حتى وفاته عام 2009 ثم واصل الابن علي بونغو المسيرة منذ ذلك الوقت وحتى عزله في أغسطس الماضي، وبدت باريس أكثر انزعاجا من المعارضة الغابونية التي تحملها مسؤولية إخفاقات عائلة بونغو في تحقيق التنمية وتضع على عاتقها استشراء الفساد في البلاد، من هنا ترتاح لقادة الانقلاب العسكري في الغابون عن المعارضة المدنية.
كشفت تطورات الأحداث في كل من النيجر والغابون أن مقياس القبول والرفض للانقلابات العسكرية لدى القوى الغربية، وفرنسا خاصة صاحبة النفوذ الكبير في غرب أفريقيا، هو معيار يكمن في المصالح المتحققة وليس الديمقراطية المغدورة، لأن المقارنة بين الموقف العام من تطورات البلدين تؤكد أن التشدق بمسألة الشرعية السياسية والدستورية ورقة تستخدم لتحقيق الأهداف.
ناهيك عن عدم استبعاد وقوف دول غربية عدة، في مقدمتها بالطبع فرنسا، خلف بعض الانقلابات العسكرية، من بينها الغابون فقائد الانقلاب الجنرال بريس أوليغي نغيما كان رئيسا للحرس الجمهوري وينتمي إلى عائلة بونغو، بمعنى قد يكون قريبا من المقاربات الفرنسية في هذه الدولة التي تتمتع فيها باريس بنفوذ اقتصادي طاغ.
شُغل خبراء في الشؤون الأفريقية بسؤال محوري، وهو لماذا تقبل الدول الغربية بديمقراطيات مشوهة وترفض التعايش ظاهريا مع انقلابات عسكرية شعارها مكافحة الفساد، وجاءت الإجابات متقاربة في إطار محاولة الإيحاء بأن الأولى يمكن تطويرها وتحسينها بينما الثانية تظل محافظة على طابعها الدكتاتوري وتفشل معها غالبية الإصلاحات السياسية، حيث يجيّر الحاكم العسكري الدولة ومقدراتها لخدمة نفوذه.
يبدو السؤال التالي وثيق الصلة بالسابق، هل حكم علي بونغو المدني كان عادلا أم مستبدا، بالطبع لم يكن نزيها، ما يعني أن عملية الديمقراطية المشوهة والدكتاتورية الظالمة يصعب إلصاقها بصفة حكم معينة، فإذا كان من الشائع أن الحاكم العسكري يمكن أن يصبح دكتاتورا من السهولة أن يتحول المدني إلى مستبد غير عادل.
تطورات الأحداث في كل من النيجر والغابون كشفت أن مقياس القبول والرفض للانقلابات العسكرية لدى القوى الغربية.. هو معيار يكمن في المصالح المتحققة وليس الديمقراطية المغدورة
يستطيع المراقب أن يخرج باستنتاجات كثيرة من المقارنة بين ما جرى في كل من النيجر والغابون، بدءا من انتماء قائدي الانقلابين إلى مؤسسة الحرس الجمهوري المسؤولة عن حماية رئيس الدولة، إلى ردود الفعل المتباينة التي تحمل في أحشائها علامات استفهام كبيرة تتجاوز حدود التعامل المباشر مع انقلابين متساويين.
قد يعتقد البعض أن الأهمية الأمنية للنيجر في وسط القارة الأفريقية أسهمت بدور معتبر في تشكيل ملامح الموقف الفرنسي، حيث تعد هذه الدولة الأبرز في حسابات باريس في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة عقب الانسحاب قسرا من مالي وبوركينا فاسو، وما تبعه من قلق فرنسي حول مستقبل وجودها العسكري في الساحل.
علاوة على أن قوات فاغنر الروسية أصبحت على مرمى حجر، حيث تتواجد عناصرها في هذين البلدين، ومعهما ليبيا وأفريقيا الوسطى، وهناك مخاوف من اقتراب فاغنر من النيجر ردا على استعلاء فرنسي مكّن قائد الانقلاب عبدالرحمن تشياني من التعامل بحسم مع باريس في كل المحكات التي كانت طرفا فيها الفترة الماضية، ولا تزال الصرامة مقدمة على الليونة معها.
أدركت الولايات المتحدة هذه المفارقات ولم تنجرف خلف الموقف الفرنسي الحاد، وامتلكت هامشا سياسيا جيدا للمناورة عندما أرسلت مبعوثين كبارا في الإدارة الأميركية وأعادت سفيرتها إلى نيامي مؤخرا، ولم تمنح الحديث عن انقلاب الغابون أولوية وركزت على الخطوط العريضة الخاصة بشعارات استعادة الديمقراطية، وما إلى ذلك من عبارات فضفاضة تبعدها عن فرنسا، أو على الأقل لا تحشرها في زاوية ضيقة معها، واحتفظت بقنوات اتصال مع قادة الانقلاب في النيجر لضمان منع تسلل فاغنر وفتح الباب لتعاون عسكري واسع مع موسكو.
يظل التناقض في التعاطي مع الحكم العسكري ونظيره المدني مخيما على كثير من المواقف الغربية، لأن القضية تتعلق بمصالح أكثر من كونها ثوابت أو نظريات سياسية، فالمحدد الرئيسي لمنهج الدول هو المصالح حتى لو تدثرت بغطاء التحول الديمقراطي، لأنه لن يفيدها إذا كانت الدولة رخوة أو غير قادرة على إحكام سيطرتها على الأوضاع، وهو ما يعزز فرص الاستقرار في الغابون.
اقرأ أيضا: