الدولة في الجزائر تتجاهل ألغامها.. وتفتخر

بعض الأحداث والوقائع تُفسِّر أُخْرى، سابقة عليها أو لاحِقة، وتُوضِّحها أو تفضحُها، ولنا مثال من الجارة الجزائر، وعلى الخصوص من الفريق الأول سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الجزائري، قبل أيامٍ أدّى زيارة تفتيش إلى المنطقة العسكرية الثانية ومقرُّها وهران، حوالي 300 كيلومتر على حدود الجزائر مع المغرب، وأشرف هناك على تمرينٍ عسكري، أو مُناوَرةٍ بالذَّخيرة الحيَّة، للوُقوف على مدى جاهِزِيَّة فَيَالِق الجيش هناك على القيام بما يُمكن أن تأمُر به قيادتُها. في الوَهْلة الأولى بَدَتْ تلك الواقعة من عادِيَات أنشطة رئيس الأركان، فعالية باتت روتينيّة، يزور المناطق العسكرية، يُلْقي في ضُبّاطها وجُنودها كلمةً “توجيهية”، وغالبًا ما تكون تعْبويّةً و”مُنَشِّطة” للمَعْنَويات ضدّ أعداء الجزائر “الّذين يتربّصون بها”. وحتّى وهم من داخل الجزائر، فإن الفريق أوّل يجدُ لهم صِلَةً مع “عدُوٍّ” خارجي يوجِّهُهُم، وغالبا ما يُلَمِّح أو يَكاد يُصَرِّح، بأنّ “العدُوّ” هو المغرب. لنقُل إنّ ذلك من “حِرْصِه” على إراحَة ضَميرِه، بأنه يؤدّي عمله والّذي يتقاضى عليه راتبا مُعْتَبرا من المال العام، ويجْني منه مكانة ونُفوذا في قيادة الجزائر، العسكرية والمدنية.
ومع اجتماع مجلس الأمن المُصَغّر، ليوم فاتح يونيو، برئاسة عبدالمجيد تبون، والذي خُصِّص “لدراسة الأوضاع العامة في البلاد والأوضاع على الحدود”، بدا أن زيارة شنقريحة إلى وهران جِدّية أكثر من المُتوَقّع، وهو ما سَيَليه تكْثيف التَّواجد العسكري الجزائري على الحدود مع المغرب أكثر، كمًّا ونوعًا، من المألوف في تِلْك الجِهَة.. ولكِنّني لا أتصور أن في هذا التَّحرُّك استعداد للحرب ضد المغرب، لأن القيّادة العسكرية الجزائرية تُتابع الجاهزية العسكرية المغربية لصدِّ أي هجوم، بالمُطارَدَة الفاعلة التي تَتَولاّها القوات المسلحة الملكية لـ”بَهْلَوَانِيّات” ميليشيات بوليساريو، شرقَ الجدار المغربي على الحدود مع الجزائر، ما جعل تلك الحدود موضوع بلاغ “مجْلِس الأمن المصغر”، والأوضاع الداخلية هي على حِدَّة من التَّوَتُّر بحيث لا تسمح بمُغَامَرة حرْبٍ ضِدّ المغرب.
◙ إنّه اللُّغم السياسي الَّذي يجْدُرُ بقيادة الجزائر أن تنْشَغل بفَكّه، بتفاعل مع مَصْلحتها في فكِّ ألْغامِها الداخلية والتي لن يزيدها تجاهُلها لها إلاّ اسْتِفْحالا واشْتِعالا
“مناورة” شنقريحة، سَتَكْشِف أهمّيتها وتوضّح مراميها تمارينُ الأسد الأفريقي التي انْطَلقت الاثنين 5 يونيو بالمغرب. لقد كان “المحترم” مُتابعا للإعْدادات الجارية لحلول “الأسد الأفريقي” بالمغرب – هو تمرين مُعْلَن ولأشْهُرٍ – والفريق أول غيرُ مدْعوٍّ له.. “الأسد الأفْريقي” تمارين عسْكرية دَوْلية هي الأضْخَم والأهَمّ في أفريقيا، ولها مدْلولات سيّاسية لا تقولُها، وإن كانت تَنْضَح بها. و”يُقْلِقُ” قيادة الجزائر منها أنها تجْري في المغرب، الجار اللّدود، وبعض عملياتها تجري في الأقاليم الصحراوية المغربية وفي “المحْبَس” خاصّة، والأهم أنها أضحت مَوْعدا سنويا قارا، أجازهُ للقُوّات الأميركية الكونغرس الأميركي، العنيد. وحَمّلَ تِلك الإجازة معاني شتّى، منها الثِّقة بالمغرب سياسيا وعسكريا ومنها التعامل مع المغرب بكلِّ أقاليمه، وضمنها الأقاليم الصّحراوية المُسْترجعة من الاستعمار الإسباني، ومنها تلك التي تشْمَئِزُّ منها قيادة الجزائر، وهي المُفاضَلَة بين المغرب والجزائر لفائدة المغرب.
ولهذا حلَّ شنقريحة بوَهْران، غيرَ بعيد عن البَلَد موْقع مُناورات الأسَد الأفريقي، لكي يُعْلِن للْمُشاركين فيها كوْنُه موجودا، ولديه آليات وذَخيرة. هي إذن عملية اسْتِباقية جزائرية، بادَرَت بمناوراتها استقبالا لمناورات الأسد الأفريقي، كما لو أنها اسْتِضافة ذاتيّة فيها. نَقْرٌ على الباب الموصَد أمامها، جرَّاء شُعور حادٍّ بالعُزْلة عن أفريقيا وشعور بضُمُور الحُضور في القَرار الدّولي ونَقْصِ الاعتبار لدى القِوَى الفاعلة فيه.
مسؤولٌ جزائريٌ “بَاهِتٌ”، قبل أيام تَبَاهى بأنَّ “الجزائر بخبْرة جَيْشها قادرة على المُساهمة في تفكيك الألغام في جميع أنحاء العالم..” وطبْعا، في جميع أنحاء العالم، لا أحدَ ناقِص للخِبْرة في التّعاطي مع الألْغام، ولا أحد اسْتَنْجَد بالجزائر في تفْكيك ألْغامِه. وبَدَلَ تحمُّل مَشقَّة “تنظيف” جميع أنْحاء العالم من الألغام، حَرِيٌّ بقيادة الجزائر الّتي تحدَّث المسْؤول باسْمِها، أنْ تنْشَغل وتنْصَرف إلى تفْكيك الأَلْغام الَّتي زرعتها، داخل البلاد وحَوَاليْها، في السياسة وفي الجغرافيا. الدّاخل الجزائريُّ يَعُجُّ بالألْغَام، في مسافة التَّنافُر بيْن الدولة وشعبها، مما يَزيدُها اتِّساعا ويُعمِّقُ خَصَاصَاتِها.. من المواد الغذائية الأساسية إلى الحريات العامة وإلى الهوية الوطنية، وهو ما يُشكل مادة “غَنِيّة” للدّارسين وللصّحافيين، من المُعارضين الجزائريين ومن الباحثين الفرنسيين خاصة، ليُؤَلِّفوا في الموضوع، من زَوايا مُختلفة وبعناوين مُتكاملة، لتشخيص “الدّاء الجزائري”.. وهو عنوان كتاب فرنسي صادَف رواجا استثنائيا.
ذلك عن داء الدّاخل الجزائري، والذي يَمتدُّ إلى خارج البلد اللصيق به، والمفتوح على تناسُل الألغام.. قيادة الجزائر مشغولة برعاية “اللّغم” الانفصالي ضدّ المغرب، بحماس وبعَمْد وسبْقِ إصْرار وتَرصُّد. “اللُّغم” الآن يَغْلي ويَجْهز للانفجار، في وجْه راعِيه. بوليساريو في حالة تحلُّل مُتقدِّمة، وهي أصْلا فاقدة لصلاحية الوُجود والاسْتِعمال، منْذ نَجاح المسيرة الخضراء في تحرير الأقاليم الصحراوية المغربية من الاستعمار الإسباني. وحتى المنشطات التي حَقَنَتْها بها قيادة الجزائر، لتمديد عمرها اصطناعيا على مدى حوالي نصف قرن، فقدت مَفْعولها. نداء “الوطن غفور رحيم” الذي أطْلَقه المغفور له الملك الحسن الثاني، أثْخَنَ فيها نَزيفا قويًّا، أفْرَغَها من أهمِّ أطُرِها المُؤَسِّسة. و”مقترح الحكم الذاتي” الذي يدعو إليه الملك محمد السادس زَلْزَلَ حاضِنَتَها السُّكَّانية ونمَّى نفورَها منها، وأخصب في السكان آمال الحياة الهادئة وبِعزّة.
خِداع قيادة بوليساريو، الَّذي به كانت تسود في مُخيمات تيندوف، خَبَا لَمَعَانُه، وأضْحت مُجْبَرة على استعمال القوّة في مواجهة تَوالي وتنَوُّع الاحتجاجات ضِدَّها داخل المخيمات، وخاصة ضدَّ غضب النِّساء. ووقْعُ ذلك في التقاليد الصحراوية، يساوي سِياط العار. ويُفَاقم من عزلتها التقلص النوعي لجمهورها في المخيمات. أغْلَب الشّباب الّذين توجَّهوا إلى الدراسة في إسبانيا، كوبا، فنزويلا وبعض البلاد في شمال أوروبا.. أغلبُهم، من الأطِبّاء، المهندسين والحاصلين على الشّهادات العُليا، ما عادوا إلى المخيمات.. فضّلوا الاسْتِقرار، بَعيدًا عن سَطْوَة مِيليشيات بوليساريو، في إسبانيا، في السّويد، في بُلدانٍ أفريقية وحتّى في أستراليا وفي نيوزيلندا. في المُخَيّمات الآن فقط، القيادة، ميليشيات، الشُّيُوخ ومن لم يؤخذ إلى مَدًى تعليمي أعلى.
◙ "الأسد الأفْريقي" تمارين عسْكرية دَوْلية هي الأضْخَم والأهَمّ في أفريقيا، ولها مدْلولات سيّاسية لا تقولُها، وإن كانت تَنْضَح بها. و"يُقْلِقُ" قيادة الجزائر منها أنها تجْري في المغرب، الجار اللّدود
هذا عَدَا عنْ تأثير الاسْتِقْطاب الاجْتماعي القبَلي الصّحراوي الطّبيعي في المنطقة، خاصة مع موريتانيا، مالي والنيجر. أما الخلافات السياسية بين أفراد القيادة وحتى الانشقاقات أضحت معلنة ويجهر بها أصحابها، بحيث انْكَمَش حجْم بوليساريو في المخيمات إلى حَمَلَة السلاح ومُحترفيه. وهو ما يجْعَل منْها لُغْمًا قابِلا للانْفِجار في تِنْدوف، دِفاعا عن “مصدر عيْش” قيادتها ومُشايِعيها، خاصّة وقد أفَلَت مزاعمها السياسية، مع ما أنتجه المُقترح الملكي “للحكم الذاتي”، من تحوُّل نَوْعي في الثَّقافة السياسية الدولية للتَّعاطي مع النّزاع حول الصحراء المغربية. ومع نُفور المِزاج الدّوْلي من المُيولات الانْفصالية.. كما كان واضحا في رفْض انْفِصال الأكْراد في العراق، ورفض انْفِصال كاتالونيا في إسبانيا، ومع موجة حلِّ الحَرَكَات الانفصالية لنَفْسها، في أوروبا، في أميركا اللاتينية وفي آسيا. إنّه اللُّغم السياسي الَّذي يجْدُرُ بقيادة الجزائر أن تنْشَغل بفَكّه، بتفاعل مع مَصْلحتها في فكِّ ألْغامِها الداخلية والتي لن يزيدها تجاهُلها لها إلاّ اسْتِفْحالا واشْتِعالا.
يحدث هذا في بَلد الرّيع الغازي والنَّفْطي الهائل، وفيه قال وزير الفلاحة، الخميس الماضي، بأن “القطاع سيُنهي ضَبْطَ خارطة توْزيع الحَليب المُدعَّم سبتمبر المُقبل”. وأسْهب الوزير، في البرلمان، مُوضّحا “بأنه تم اعتماد في إعداد هذه الخارطة على عدد سكان البلديات والولايات مع مراعاة مكان تواجد المَلْبَنَات العُمومية والخاصة. وتَضمَّنت الخارطة التي أشرفت على إعدادها لجنة وزارية مُشْتركة، آليات تَتَبُّع مَسار الحليب حتى لا يتم توجيهه إلى مسارات أخرى”. “لا يتمُّ توجيهه إلى مسارات أخرى”، قاعدةٌ ذهبية، لو أعْمِلت في تتبُّع كلِّ أوجُه تصريف الميزانية العامّة في الجزائر، لمَا كانت فيها طَوابير الحصول على مواد التغذية الأساسية، ولمَا تعالى فيها أَنينُ “داء فُقْدان الكَرامة المُكتسبة”، لدى شعب شَحَن كفاحه التَّحرُّري بآمال الحياة بكرامة.. ولما كانت قيادتها في حاجة إلى المكابرة والمباهاة بما لا تملك من مقومات القوة، وبما ليس مطلوبا منها أن تدعيه.. والمطلوب منها، فقط، أن تكون مصدر خير لشعبها، لا سبب دائه.