الدولة المدنية دواء سرطان الطائفية في لبنان

“حوار صحافي في كتاب”، هكذا يصف جان دايه كتابه الجديد “البروفسور فيليب سالم وسرطان الطائفية”. يتضمن الكتاب نصّ لقاءات دايه المتكرّرة خلال سنوات ثلاث (مرّتان في السنة، أي خلال وجود سالم في لبنان) والتي انحصرت في نقاش حيوي حول فصل الدين عن الدولة، وكل ما يمتّ إلى هذا الموضوع الهام بصلة.
يكتب سالم عن فصل الدين عن الدولة منذ بداية السبعينات ويحاضر في جامعات كبرى داعيا إلى تحقيق هذا الإنجاز الذي يعتبره الأساس الذي تُبنى عليه الدول العصرية المتقدمة، ويُبنى عليه الاجتماع السياسي. الأنظمة السياسية التي تطبّق فصل الدين عن الدولة هي التي تتقدّم إنسانيا وحضاريا وثقافيا. لكن سالم يؤكد باستمرار على أهمية الدين وقيمه الإنسانية، ويرى أن الدين ليس أمرا عابرا، بل هو أساس الإيمان لدى معظم الشعوب.
وإذا كان الكثيرون يعتقدون أن “الطائفية هي علّة وجود لبنان”، فإن البروفسور فيليب سالم يعطي -وهو طبيب الأمراض السرطانية البارع- أجوبة شافية لحلّ هذه المعضلة وهي: الحرية، الديمقراطية، فصل التربية عن الدين، العدالة، المساواة بين اللبنانيين… هذه القيم الإنسانية الراقية والعالية هي أساس بناء الدولة العصرية الحديثة، حيث لا خضوع للدين في إدارة شؤون هذه الدولة، ولا في إدارة شؤون الناس.
يميّز سالم بين فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، فهو يرى أن العلمانية هي فلسفة تؤمن بما هو مرتبط بالعقل والأمور المادية المحسوسة. ويقول “نحن الآن نطالب بالدولة المدنية بدل أن نطالب بالدولة المدنية العلمانية. كل ما لا يقبله العقل ترفضه العلمانية. وهذا ما يؤكد أن فيها انتقاصا من قيمة الدين إلى حد ما. وبرأيي، الدين أمر مهم ونحتاجه كي لا ندمّر ما تبقى من أخلاقياتنا. نحن في عصر التكنولوجيا التي تدمّر كل القيم، لذلك يفيدنا أن نمنع أي محاولة لتدمير الدين”.
لهذا السبب ندرك دعوة سالم إلى فصل الدين عن الدولة وتخلّيه عن الدعوة إلى العلمانية، إيمانا منه بأن العلمانية قد تصل في النهاية إلى عدم احترام الأديان، أو عدم الإيمان بالدين كقيمة إنسانية وأخلاقية كبرى وأساسية لحياة وفلسفة الناس.
مثير للنقاش والتساؤل
يقول نصري الصايغ، في مقدمة الكتاب، إن “كتاب جان دايه يختلف عن سواه. إنه أسئلة يطرحها على الدكتور سالم حول سرطان الطائفية. إنه مثير للنقاش، ومثير للتساؤل. ولعل القارئ يجد متعة في معرفة مشكلات لبنان من رجل علم، وليس من رجل سياسة، من دون أن يعني ذلك أنه غير سياسي. بل إن سياسته إبداع لفكره وثقافته وتربيته”.
فيليب سالم رجل علم قبل أي شيء آخر، توصّل عبر تجاربه وأبحاثه في السياسة والاجتماع والفلسفة، إلى أن الدين مع الدولة أدّيا إلى خراب الشرق، ودمّر العالم العربي. وأن لبنان مؤهل لفصل الدين عن الدولة طالما أن دستوره لا ينصّ على دين الدولة، خلافا لما هو حال الدول العربية الأخرى، وخلافا لما هو عليه الحال في إسرائيل التي تعتبر في دستورها أن اليهودية هي دين الدولة. بل أكثر من ذلك فقد أكدت على عنصريتها عندما اعتبرت أن اليهودية هي شرط للجنسية الإسرائيلية، وهذا يعني أن كل سكان إسرائيل من غير اليهود هم مواطنون من الدرجة الثانية!
ويرى سالم بأنه حتى في الإسلام لا مشكلة في فصل الدين عن الدولة، وأن تجربة مصطفى أتاتورك في تركيا كانت رائدة في العالم الإسلامي. وهناك دول إسلامية عديدة لا مشكلة لديها في هذا الإطار.
عند سالم فلسفة خاصة حول طرحه لفصل الدين عن الدولة، فهو من الناس المؤمنين بوجود الله، ولا يدخل في دعوته لفصل الدين عن الدولة من منطلق الإلحاد، بل على العكس، يدخله من منطلق الإيمان العميق المبني على المعرفة. هناك إيمانان: الإيمان المطلق المبني على التسليم، والإيمان المبني على المعرفة. وهو يشدّد على النقاط التي تركّز على قيام الدولة المدنية التي لا تقوم إلا إذا كان هناك فصل بين الدين والدولة. لأنه في الدولة المدنية الناس يتساوون في الحقوق والواجبات.
هناك نقطة أساسية وهامة يركّز عليها سالم وهي ترتبط بموضوع “تحرير الدين”. ويعطي مثالا على ذلك ما حصل في الدين الإسلامي حيث إن الترابط بين السياسة والدين أدّى إلى نشوء تنظيمات إرهابية (داعش مثلا). ويؤكد أن تاريخ الإسلام لم يتعرض لمثل هذه “النكسة” ولم يشهد ظهور مثل هذه “العوارض” الإرهابية والتكفيرية. ويؤكد سالم على أن المسيحيين ليسوا الضحايا الحقيقيين لهذا الإرهاب الذي أدّى إلى إعطاء “صورة متوحشة” عن الإسلام. وبينما كان الرفض في السابق للإرهاب، تحوّل اليوم إلى رفض للإسلام في الغرب، بينما هو في الحقيقة، جوهر وقيم، وحقيقة الدين الإسلامي ترفض مثل هذه المفاهيم الإرهابية والتكفيرية، التي هي خارجة عن رسالة الإسلام الداعية إلى المحبة والسلام.
فصل الدين عن التربية
“عندما تفصل الدين عن الدولة، فأنتَ تحرّر الدولة إلى ناحية التعليم”، ينطلق سالم من هذا الاعتبار الهام ليؤكد على ضرورة تحرّر العلم من الدين، لأن كل شخص يعمل على إيصال الصورة التي تناسبه، ويفسّرها كما يشاء، حتى لو كانت متّصلة بالدين. ويرى أن التربية أهم ثورة في تاريخ الإنسانية. والتربية ليست تلقين المعرفة وحسب، بل هي نوع من تجديد للعقل ليصبح الإنسان جديدا وفاعلا.
ويتساءل سالم: لماذا لم تشهد المجتمعات العربية أي تغيير؟ ويجيب: ببساطة، لأن فلسفة التعليم فيها هي فلسفة نقل المعرفة من الأستاذ إلى الطالب. لذلك فإن النخبة بحدّ ذاتها لا تقبل فكرة التغيير، لأن العلم في هذه المجتمعات عبارة عن طلاء خارجي. ويضيف سالم بأن المعرفة مهمة ولكن هناك شيئا أهمّ منها، هو تحفيز العقل وتدريبه وخلق عقل جديد، والعقل يجب أن يكون القدوة.
فيليب سالم يؤكد لسائله، أن “سرطان الطائفية ليس مستعصيا. هذه الكلمة خطأ علمي. المشترك بين الطائفية والسرطان أمران: الخطورة، وإمكانية الشفاء
يتفاءل البروفسور سالم بالدعوات المتكررة من مراجع دينية وسياسية بارزة في لبنان (آخرها دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري) لقيام دولة مدنية. وحول هذه النقطة يدعو سالم “المجتمع المدني” إلى أخذ المبادرة والعمل بشكل جماعي لا فردي دون تسرّع، والعمل عبر الوسائل الديمقراطية لاستبدال القيادات السياسية بقيادات من المجتمع المدني تكون موثوقة ومجرّبة وذات فاعلية، ومن الأمور التي يجب البدء بتغييرها هي فصل الدين عن الدولة. “لأن الدولة المدنية وحدها تعطيك حقوقك” كما يقول سالم الذي يضيف “أنا مثلا أشعر بتمييز ضدي في لبنان. لأنني أرثوذوكسي لا أستطيع أن أكون رئيسا للجمهورية أو الحكومة أو المجلس النيابي. أما في أميركا، مثلا، فالأمر مختلف: أشعر أن كل حقوقي تصلني. ليس هناك من تمييز ضدّي”.
يقول سالم “أميركا تسأل: ما هو الإسهام الذي تقدمه لي وللعالم؟ هنا في لبنان هذا السؤال لا يُطرح… هنا النظام يهينك لأنه يحدّد لك الانتماء إلى القائد الديني أو إلى الزعيم السياسي… هذه الجماعة القابضة على زمام السلطة لا يمكن أن تقوم بأي خطوة للتغيير، لأن التغيير لا يناسبها”.
“فيروزية” الانتشار اللبناني
يصف سالم الانتشار اللبناني في العالم بأنه قوة هائلة كآبار النفط. و”الانتشار” قادر على تغيير الواقع اللبناني إذا ما سنحت له الفرصة. ويرى أن علاقة المنتشرين بلبنان تشبه “العلاقة الفيروزية” أي الحنين إلى الجذور. ولكن التواصل الحقيقي لم يتمّ بشكل فعلي ليتمّ استثمار النفط الإنساني الذي نملكه… هذا بالإضافة إلى أنه لدى المنتشرين تجربة جيّدة تتمثل في تعرّفهم إلى روحيّة فصل الدين عن الدولة.
من جبران خليل جبران، إلى غسان تويني وكلوفيس مقصود، وصولا إلى كمال جنبلاط ونجيب عازوري، وشارل مالك، وسواهم من رجالات الفكر والسياسة والأدب الذين يتحدث عنهم فيليب سالم، بعضهم عن معرفة وثيقة وقربى عائلية، وبعضهم الآخر من خلال قراءات ودراسات معمّقة عنهم.
في النهاية أعطى “طبيب الأبدان” كما سمّاه مؤلف الكتاب، رأيا في كل حال وحالة. لكن سالم يعترف بـ”فضل” شارل مالك ابن بلدته (بطرّام) في إقرار شرعة حقوق الإنسان. لكن سالم يؤكد مرة أُخرى، أنّه يطالب الأمم المتحدة بإضافة فقرة على هذه الشرعة تنصّ على ضرورة إعطاء الإنسان (الحق في الصحة)، لأنه ماذا ينفع الإنسان إذا نال حقوقه كافة في الحرية والمساواة والديمقراطية وبقي عاجزا عن مداواة أمراضه ونيل حقّه الطبيعي في المعالجة والصحّة والحياة…
إذا كانت الطائفية سرطانا اجتماعيا، فهل يكون علاجها مستعصيا كبعض السرطانات الجسدية، خصوصا بعد أن تأصّلت وتفشّت في جسم المجتمع اللبناني، كما يسأل جان دايه؟ فيليب سالم يؤكد لسائله، أن “سرطان الطائفية ليس مستعصيا. هذه الكلمة خطأ علمي. المشترك بين الطائفية والسرطان أمران: الخطورة، وإمكانية الشفاء. الطائفية كالسرطان، يمكن الشفاء منها”. نأمل ذلك ونتمنّاه في وطن الطوائف والطائفية… لبنان!