الدمعة الحمراء صورة العربي في الدراما البدوية الأردنية

عمّان - استطاعت الدراما الأردنية المتلفزة جذب أنظار المشاهد العربي واهتمامه، على مدى الثلاثين سنة الماضية، فوسمت هذا النوع من الفن بوسمها الأردني، حتى أصبح علامة مسجّلة يصعب تجاوزها، خصوصا بعد أن راجت في دول الخليج العربي والمجتمعات العربية التي ما زالت أقرب إلى البادية منه إلى المدنية.
وبرغم المزاحمة التي فرضها وجود أو دخول منافسين أقوياء جدد، مثل عمالقة الإنتاج الفني المصري والسوري وتاليا الخليجي، والمسلسلات التركية، إضافة إلى تراجع اهتمام الجمهور بالمسلسلات عموما، وذلك مع ظهور تطبيقات الإنترنت التي تطاوع رغبة المشاهد، إلا أن الدراما الأردنية لا تزال تجلس في صدارة المشهد الفني العربي.
تنميط صورة البدوي
صورة البدوي لا تغادر ذلك الشكل الذي حصرتها فيه الدراما العربية عموما، وهو شكل أسير لثنائيات الخير والشر، الكرم والبخل، الشجاعة والجبن، الحرب والسلم، الحبّ والكره، بينما يتم إغفال صورة الإنسان البدوي المكافح الذي يخوض صراعه الأساسي مع الطبيعة القاسية، حيث يعاني شظف العيش والكدّ والتعب وأعمال السخرة.
فتظهر صورة شيخ القبيلة النمطية؛ الرجل الطيب الكريم المُحبّ الذي يوزّع الخير إلى الناس، فلا تراه إلا مُعطيا مُطعما، في تجاوز مقصود عن موقعه الطبقي الذي يهيمن من خلاله على إنتاج أفراد القبيلة وفارق القيمة الناتج عما يبذلون من جهدهم وعرقهم.
خارج إطار التاريخ
في الوقت الذي تتم فيه مراعاة بسيطة للمكان، يجري فيه فصل القصص الدرامية تماما عن التاريخ، فهي خارج هذا الإطار، ولا تكاد تعرف في أي زمان وقعت أحداثها، فتظهر الدراما كفانتازيا أو تراجيديا مجردة عن أيّ صلة بالتاريخ، وربما تم هذا التجاهل عن قصد وسبق إصرار؛ يُعفي الكاتب من الانحيازات السياسية التي قد تتشكل، أو تجنبا لأن تُفسرَ على أنها إسقاطات على الواقع، لكنها تُجرّد العمل من إطاره التاريخي الذي يفسّر أحداثه ويوضّح سياقاته الاجتماعية.
ففي البادية العربية، كان الصراع الأساسي على الدوام صراعا مع الطبيعة، وتنقّلا دائما بحثا عن الكلأ والماء، ما يلقي بظلال قسوة على المشهد تنفي كل ما تصوّره الدراما من ادّعاءات تستبعد مشاهد المعاناة اليومية للبدوي، وربّما يأتي ذلك توظيفا متعمّدا بغية تحقيق التسلية السهلة غير المزعجة، واصطيادا للمواطن الاستهلاكي المسترخي على الأريكة مقابل الشاشة.
هذه الظروف القاسية بالضرورة تؤثّر في المنظومة القيمية في مجتمع البداوة، بل وتُشكّلها، لكننا لا نحب أن نعترف بذلك. فتظل الدراما المتلفزة تُبرز الأخلاقيات الإنسانية الراقية، بينما منتجات الواقع القاسي تتنافى مع الصورة المثبتة في الدراما عن البادية، فيتم مثلا إسقاط فكرة محاربة السرقة، تربويا، على أحداث المسلسلات، وإظهار أن من تجرأ على ممتلكات الآخرين هم الأشرار حسب ثنائية الخير والشر.
|
لكن الواقع يقول إنه كلّما جاء القحط والجدب، كان يتمّ غزو الآخرين بالتضامن بين الأخيار والأشرار من أفراد القبيلة، بغية الحصول على ما يسد الرمق، وضمن قرقعة الغزوة سيخفت صوت الضمير ولن تسمع غير نداء الحماسة والاعتداد، وليس من صوت يعاكس هذا الاتجاه.
امتازت الأعمال الدرامية بقصص مثالية وعظية لا تشبه الواقع بتناقضاته وواقعيته، بل انصرفت إلى جزئيات في إطار سعي منتجيها إلى الربح السريع واستغلال الطلب الموسمي من قبل الشاشات الخليجية، على حساب العمق الذي يمكن الاتكاء عليه بمعينه المترع بالثقافة العربية المتشكلة على أطراف الصحراء وسيفها.
فأظهرت الدراما المجتمع البدوي في عزلة تامة عن الريف والمدينة، وهذا يخالف الواقع، فأين التبادل التجاري مع الحضر، ومن أين يأتي البدو بكل هذه الحاجيات والأدوات المستخدمة في حياتهم؟
لقد تجاهلت الدراما ذلك كله ، وتجاهلت قبله حياة البدوي المعيشية الحقيقية، فلم نر أيّ تفصيل عن عمله الأساسي، الرعي، وكيف ينتج طعامه وفراشه وملبسه. فيتم إنتاج الأعمال الفنية البدوية ممكيجة ومحسّنة لتناسب الذائقة السائدة والنمط الاستهلاكي المعمم في الدول العربية.
ضمن فانتازيا متحررة من قيود الواقعية، تجري أحداث مسلسل “الدمعة الحمراء” 2016 الذي أخرجه حسام حجاوي، فيما أعدت السيناريو الكاتبة وفاء بكر عن قصة الأمير محمد السديري، وقام بتمثيله كوكبة من الممثلين. قصة المسلسل تجري على نحو شائق مُدعّم بالإمكانات الإنتاجية القوية التي لا تخلو من بعض المبالغة في الكثير من المجالات، فعلى سبيل المثال أثثت بيوت الشعر، بطريقة فاخرة جداً، بما لا يتناسب مع سنين القحط. وكانت ملابس الممثلين من الجدة، بحيث تلفت الانتباه، وتمت المبالغة بالمكياج. كما يلفت النظر أن المسلسل يصوّر على الأغلب حياة قبيلة كاملة، بين حلّ وترحال وسلم وحرب، لكنك وحتى الحلقة التاسعة عشرة لا ترى أطفالا، فالمجتمع كله من الكبار، كما تكرّرت لأكثر من أربع مرات قصة خلافات بين أزواج، تصل إلى حد الطلاق أو توشك، ولا يمنعها إلا أن الزوجة حامل.
على غير العادة في المسلسلات البدوية، ليست لدينا هنا نهاية سعيدة، بل هي تحقق لنبوءة الدمعة الحمراء التي احتفظت بها الجدة “العسيرة” في صندوقها الذي ظلّ محاطا بهالة من الرمزية المركزة، ففيه أيضا قدرات على إعادة الحياة للموتى.
القصة المحورية في العمل هي قصة الحب بين “الوافي” و“شيمة” التي لا تنتهي بالزواج بسبب اعتراض أبناء العمومة وتقدمهم لطلب يد الـ“شيمة”، فتعيش القبائل كلها حالة من التعاطف الكامل مع القصة والاندماج بحزن العاشقين المحرومين. تنزل هذه الدمعة كنهاية للدمعات الطبيعية وتعبيرا عن جفاف العيون من دمعها، بحيث لا تبقى إلا دموع الدم.
|
الشعر ديوانا للعشق فقط
على أطراف نجْد العذية، أاختيرت “رم” سيدة الرمال الذهبية، لتكون أرض وساحة لأحداث هذا السرد المشخّص للقصة النجدية، فنجْد وبرغم القسوة والغلظة تظل منبعا للحب، نجْد هي أول من يستحوذ على العشق من القلوب ثم تمنحه بمودة للأبناء، فيغادرها العاشق في سنوات القفر، لكنها لا تبرح قلبه، ويظل الوفيّ إليها، فما زالت صرخات الجازية في التغريبة الهلالية تجوب آفاق الغربة، فنَجْدٌ ليست مجرد رمال يعتريها الجدب.
تجري الأحداث منسجمة على أرضية صديقة لنجْد تتمثل الواقع، فيما تسبغ الأشعة الذهبية على المشهد شاعرية تحتضن التفاصيل اليومية للحياة البدوية من دون أيّ نشازات في الصورة.
تُنثر درر الشاعر الأمير محمد السديري الرقيقة، فتغطي القصائد مساحات واسعة من الحوارات بين أبطال الحدث، لتبرز شخصية البدوي الذي يمضي جلّ أوقاته في الرعي متأملا الطبيعة، فهي أشعار لا تغادر مساحات الاعتداد والاعتزاز بالقبيلة والنفس، كما أنها تُقدم ما في نفس الشاعر من زهوّ بما يحمل من خصائص وشمائل. وفي الوقت ذاته يلمع الشعر متوهّجا، كوجه سيف يجابه الأعداء، فيهجوهم ويفضح ما فيهم من سوء الأفعال والصفات.
بادية الشام
في الدراما البدوية، عموما، يتم اختزال الواقع بصور الإثارة الرومانسية المتعلقة بقصص العشق المأسور بالمعاناة، وتُسخِّر الدراما الشعر البدوي لهذه الغاية فتعمّم قصائد العشق، متغاضية، هذه المرة، عن كون الشعر النبطي هو ديوان البادية وسجلّها الحافظ لتاريخها، كما كان الشعر ديوان العرب القدامى، فلا يتم استحضار إلا ما يناسب تأوّهات العشاق، بينما تستبعد عن عمد تلك القصائد التي تسجّل وتوثّق الأحداث والمعارك وتاريخ القبائل البدوية.
الواقع الدرامي الأردني المقدم إلى هذه اللحظة، مع القليل من الاستثناءات، ما زال بعيدا وضيّع فرصة كان يمكن أن تمنح هذا النشاط تميزا يرتقي إلى العالمية، وأن يعكس رؤية حضارية لهذه الحقبة التاريخية.
كان يمكن لذلك أن يتم من خلال الابتعاد عن تسطيح المواضيع، وإبراز ما تمتلكه البادية الشامية كبقعة جغرافية غنية ثقافيًا واجتماعيًا، بما لبداوتها من أنساب وقبائل وعراقة، وعادات وتقاليد، وقصص وأساطير، كثير منها قد سجل قصة سيطرة الإنسان على الطبيعة القاسية.
وهي بداوة ترتبط بحضر العراق والشام وبأريافهما، وهي لم تُقدّم حتى هذه اللحظة قبائلهما ومعاركهما التاريخية وقصصهما الإنسانية.. لقد تُرك هذا التراث نهبا للنسيان، فلم تظهر في الدراما أيّ مراجعات لتاريخ زاخر بمقاومة المستعمر، بل أظهرت العربي عاشقًا سيء الحظ، يهيم في تخوم ديار الحبيبة على وجهه، ليست لديه أيّ انشغالات أو هموم أخرى.