الدعاية والدعوة

من المفردات الرائجة لعملية الإشهار نجد لفظ “الدعاية”، الممتد في حقول السياسة والاقتصاد والعقيدة والثقافة، لدرجة أن عددا كبيرا من الصيغ لا تستعمل مفردتي “الإعلان” و “الإشهار”، من مثل تلك التي تروج في زمن الحملات الانتخابية.
ولعل من اللافت للانتباه أن مفردة “الدعاية” استخدمت للمرة الأولى مقترنة بمفهوم الدعوة، في السياق المسيحي مطلع القرن السابع عشر، وتحديدا من قبل البابا غريغوري الخامس عشر، حين أنشأ مجمعا مقدسا للدعاية الكاثوليكية، لجنة تقابلها هيئات البروباغاندا الأيديولوجية في الأحزاب العقائدية والطائفية، والقصد منها هو استحداث آليات ترويجية فعالة لإقناع الناس بصواب نهجهم السياسي واختياراتهم الفكرية، وفائدتها الكبيرة لشخوصهم ولمجتمعاتهم. شيء شبيه بما نجده في التاريخ الإسلامي، ما بعد زمن الرسول، حين اقترنت الدعوة بالدعاية لمذهب أو طائفة سياسية، وهي القاعدة التي ورثتها في زمننا الراهن جماعات الإسلام السياسي التي تنهض أطروحتها على اعتقاد مركزي مفاده أن زمن الدعوة لم ينقض باختتام الرسالة، وإنما هو واجب متداع في الزمان شأنه شأن أي عقيدة ثورية.
من هنا كانت الدعوة والدعاية متصلتين بمضمون فكري واحد، متلازم في عرف الآلية التي ترى إلى إغراء الناس بمصير خالب (في ما بعد) مقابل امتلاك حاضرهم (الآن)، ففي النهاية تقوم الدعوة الدينية/ السياسية والدعاية للمنتجات الاستهلاكية معا على وعد بشيء غائب، وإذا كانت الدعاية الخاصة بمنتجات من قبيل الهواتف الذكية والسيارات ومستحضرات التجميل تقوم على وعد بالسعادة والكمال المؤقتين، فإن وعود الدعوة العقائدية هي السعادة والكمال الخالدين، لهذا انصرف الخطاب اللفظي في الدعوة والدعاية معا إلى استخدام الأساليب الجاهزة التي تقول كل شيء دون أن تقول شيئا، حيث تلتقي عبارة دعائية من قبيل: “حليب المراعي: للمحبة طعم” مع صيغة دعوية من قبيل “الإسلام هو الحل”، وهي في مجملها رواشم لغوية مسكوكة تتملص من أي التزام مع المستهلك.
في الأيام الأخيرة صعق مشاهدوا البرامج التليفزيونية بإعلان طريف للداعية عمرو خالد، روج فيه لمنتجات استهلاكية متنوعة، تراوح بين الدجاج والعطور، والطريف في هذه الإعلانات والغرائبي إلى حد ما، أن الداعية يخلط بين آليات الدعاية والدعوة، ويوظف كل مهارات الإقناع لبيع سلعة استهلاكية، وجر المخاطب إلى دائرة السحر، فعطور القرشي هي نموذج الجمال الذي تنطوي عليه قيم الإسلام مثلا، ومن استهلكها فهو مسلم بالسجايا. وبصرف النظر عن حدة ردود الفعل المصدومة من هذا الخلط بين مجالين متباعدين في الإعلان التجاري مدفوع الأجر، بدا وكأنما المستهلكون / الناخبون، يتنبهون لأول مرة إلى أن سلوك الداعية قائم في الأصل على بيع الأوهام والخيالات، لجماعات مجبولة على التعلق بوعود سعادة ثاوية ببطن الغيب.