الدراما اللبنانية المحلية تنافس بقوة رغم شُح الإنتاج

سيطرت على الساحة الدرامية العربية لسنوات كل من الدراما المصرية والسورية، لكن في السنوات الأخيرة ظهرت الكثير من المسلسلات من خارج القطبين الدراميين، أعمال تنبئ بتطور كبير في الدراما العربية سواء في الخليج أو لبنان أو المغرب العربي.
تتجه الدراما اللبنانية منذ سنوات إلى الاستعانة بالنجوم والمخرجين وكتاب السيناريو العرب، وقد فرض هذا التوجه ظهور نوعية من الأعمال ذات طبيعة مزدوجة تراوح بين بيئتين، لعل أكثرها وضوحا هي تلك الأعمال التي تمزج بين البيئة اللبنانية والسورية. في هذه الأعمال يتم تطويع النص كي يتناسب مع هذه الطبيعة المزدوجة، وخلق مسارات درامية يشتبك خلالها اللبناني بغير اللبناني، بعضها يأتي سلساً وطبيعياً، وبعضها الآخر يأتي مفتعلاً أحياناً.
قلّص هذا التوجه بطبيعة الحال مساحة الأعمال اللبنانية الخالصة المهتمة بالقضايا المحلية، ويعود ذلك لأسباب كثيرة ومتعددة، لعل أبرزها متعلق بآلية التسويق التي تعتمد على مدى انتشار النجم أو النجمة في سوق الدراما العربية، وهناك أسباب أخرى لها علاقة برغبة صناع الدراما اللبنانية في الاستفادة من الخبرات الفنية للنجوم والمخرجين والكتاب والفنيين من خارج لبنان، وعلى وجه الخصوص من سوريا، التي تتمتع بقدر معقول من مقومات الصناعة الدرامية، ما أهلها لاحتلال مركز الصدارة في سوق الدراما العربية لسنوات. هذا بالطبع قبل تأزم الوضع في سوريا واضطرار العديد من عناصر الصناعة الدرامية السورية إلى الانتقال نحو بلدان أخرى، كان لبنان الأقرب بالطبع.
التراجع الملحوظ للدراما المحلية اللبنانية يرسم العديد من علامات الاستفهام حول أسبابه الحقيقية، فهل هو متعلق بالإخراج مثلاً، أم بندرة المواهب التمثيلية؟ لا شك أن لبنان لا يفتقر إلى الكفاءات الإخراجية ولا إلى المواهب التمثيلية أيضاً. ويبدو أن الأزمة الحقيقية مرتبطة في الأساس بطبيعة النصوص، ثم بإدارة العمل ككل، ولعل السبب الأخير هو الأكثر تأثيراً.
هذا العام شهدت الصناعة الدرامية المحلية اللبنانية تطوراً ملحوظاً، ليس على مستوى الكم، بل على مستوى الكيف، فرغم أن ما أنتج هذا العام من أعمال لبنانية خالصة لم يزد عن عملين اثنين، وهما مسلسل “أسود” و”انتي مين؟” إلا أنهما مثّلا معاً حالة استثنائية بين الأعمال الأخرى المعروضة في هذا الموسم، إذ تميز هذان العملان بتوليفة خاصة ومتميزة استطاعت الدخول إلى حلبة المنافسة بقوة، ليس في الداخل اللبناني فقط بل على مستوى الفضائيات العربية أيضاً، وهو ما لم يكن متحققاً خلال السنوات الماضية. فدعونا نلقي نظرة إذاً على هذين العملين.
يحقق مسلسل “أسود” للمخرج سمير حبشي والكاتبة كلوديا مارشليان حتى الآن نسبة مشاهدة معقولة، رغم مواعيد عرضه التي تتضارب مع أعمال أخرى حظيت بأساليب ترويج ودعاية استثنائية، كمسلسل الهيبة على سبيل المثال. يشارك في المسلسل نخبة من النجوم والنجمات اللبنانيات، مثل الفنانة المتألقة ورد الخال، وداليدا خليل، وباسم مغنية، وفيفيان أنطونيوس، وإليكو داوود.
رغم حالة الغموض والإيقاع البطيء والحزين اللذين يكتنفان أجواء المسلسل إلا أنه يحافظ حتى الآن على قدر من التشويق، مع الابتعاد عن الحوارات المفتعلة.
يعتمد المسلسل في حبكته الدرامية على واحد من الأعراض المرضية المعروفة في علم النفس بـ”متلازمة ستوكهولم” وهو مرض نفسي يشير إلى تعاطف الضحية مع الجاني. هذا التعاطف يتحول هنا إلى ولع وغرام من قبل “كارن” التي تلعب دورها الفنانة داليدا خليل، والتي يتم اختطافها على يد رجل غامض يدعى أسود (باسم مغنية). في هذا المسلسل تلعب ورد الخال دور الأم المتسلطة والظالمة باقتدار، ما سلّط الضوء على مهاراتها كممثلة محترفة، وهي مهارات لم يتم استثمارها حتى الآن. كما استطاع باسم مغنية أيضاً أن يجسد بجدارة دور الشخص المضطرب نفسياً، وهو دور يحسب له على كل المستويات.
نأتي هنا لمسلسل “انتي مين؟” للمخرج إيلي حبيب وتأليف كارين رزق الله. في هذا المسلسل تلعب رزق الله أيضاً دور البطولة إلى جانب كل من عمار شلق، وجوليا قصار، وفادي متري، ونيقولا دانيال. يضاف هذا المسلسل بلا شك إلى رصيد كارين رزق الله كتابةً وتمثيلاً، فقد استطاع العمل عبر الحلقات التي تم عرضها حتى الآن أن يستحوذ على اهتمام الجمهور اللبناني بالفعل.
بدا الحوار في المسلسل خالياً من الافتعال والمبالغة في الأداء، كما برع المشاركون في تقديم أفضل ما لديهم. مسلسل “انتي مين” هو مسلسل لبناني خالص يتجاوز السلبيات السابقة للدراما اللبنانية المحلية التي ابتعد معظمها عن الواقع اللبناني بشكل أو بآخر. استطاع صناع العمل اختراق أعماق المجتمع اللبناني والتعبير عن قضاياه الحقيقية عبر مجموعة من القصص الإنسانية والتفاصيل الحياتية، وربما يكمن هنا سر نجاحه. في هذا المسلسل نرى الجارتين: كارين رزق الله، وإنجو ريحان في دورين لافتين، مثلاً معاً محوراً للخطوط الدرامية في العمل ككل. الفنان عمار شلق قدم لنا أيضاً دوراً لافتاً، كما تطالعنا هنا النجمة جوليا قصار بعد انقطاع سنوات عن العمل الدرامي.
استطاع المسلسل رغم ميزانية إنتاجه المتواضعة بالمقارنة مع أعمال أخرى أن ينافس العديد من الأعمال المعروضة على الشاشات اللبنانية، فقد أظهرت المؤشرات تقدمه في نسبة المشاهدة على مسلسلي “الهيبة” و”خمسة ونص”.
يتطرق المسلسل إلى أحداث الحرب اللبنانية وآثارها على من عاصرها من اللبنانيين عبر عائلتين، الأولى عائلة جهاد (كارين رزق الله) ووالدها نيقولا دانيال الذي عاصر الحرب اللبنانية بكل أوجاعها، هذه الحرب التي تركت فيه ندوباً لا تزال مؤثرة حتى اليوم.
أما العائلة الثانية فهي عائلة الأستاذ نسيم الذي يلعب دوره باقتدار النجم عمار شلق. يأخذنا المسلسل عبر تفاصيل الحياة اليومية في المجتمع اللبناني، مسلطاً الضوء على مشاكله الحقيقية بعيداً عن الصورة المخملية التي أصبحت طاغية على العديد من الأعمال اللبنانية.
ولعل هذين العملين يمثلان معاً دافعاً لصناع الدراما المحلية في لبنان للبحث عن نصوص مختلفة وغير مكررة، والأهم من ذلك أن تقدم لنا هذه النصوص صورة طبيعية وغير مفتعلة للمجتمع اللبناني، وأن يقترن ذلك بالاهتمام بالتفاصيل والحبكة الدرامية، وهي كلها أمور بمقدورها أن تغير من المعادلة الدرامية العربية وتعطي للدراما اللبنانية دفعة قوية للأمام.