"الدب".. رؤية سورية للعوالم الكوميدية لتشيخوف

بعد أكثر من مئة عام على تأليفها لا تزال مسرحية “الدب” للكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف تقدّم على مسارح العالم، ويجد فيها المخرجون مادة غنية لطرح رؤاهم المسرحية بشكل معاصر. والمخرج المسرحي السوري مأمون الخطيب واحد من مئات المخرجين الذين استلهموا نص تشيخوف ليسقطوه على الواقع السوري الراهن.
دمشق- في عرض جديد للمسرح القومي بدمشق قُدّمت مسرحية “الدب” للكاتب الروسي أنطون تشيخوف في معالجة سورية أعدّها للمسرح طارق عدوان وقام بإخراجها مأمون الخطيب، ومن تمثيل كلّ من رنا جمول ووسام محمود وزينة المصري.
ومسرحية “الدب” كوميديا من فصل واحد تقدّم للمتلقي حكاية عن الحب وعن مدى احتياج الناس له في حيواتهم، حيث يؤكّد العرض على أن الحب هو الطاقة المتجدّدة التي تجعل من الحياة طقسا ممكنا يتابع فيه الناس حياكة أحلامهم وآمالهم.
صدام فحب
خرج العرض السوري عن النص الروسي الأصلي من حيث زمانه في نهايات القرن التاسع عشر وصار عصريا مواكبا للتقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطوّرة والجوالات، كما حضرت ملابس العصر وديكوراته ويومياته المعيشة.
يبدأ العرض من متابعة حكاية الأرملة الشابة التي توفي زوجها منذ عام، وهي مازالت على حدادها عليه، لا تخرج من البيت ولا تستقبل أحدا، ولا تقيم لأي مُبهج مكانا في حياتها. لكن كان لعمتها رأي آخر، فهي تحثّها على أن تعود إلى الحياة وتلاحق حظوظها فيها بكل ما أوتيت من طاقة.

مأمون الخطيب: الحب الكامن في الناس حاجة وجب البحث عنها لتزهر الأحلام فيهم
وبشكل مفاجئ يدخل حياتهما رجل يعمل في مجال تعهدات تربية الحيوانات، فظّ وسريع الغضب، إلاّ أنه أيضا متحدّث لبق وقويّ الحجة، يطالب الأرملة بديون له في ذمة زوجها الراحل، ويسلّم المرأة وثائق تُثبت هذه الديون، فتطلب منه التريّث بعض الأيام حتى يعود مسؤولها المالي ليتمّ الأمر، لكن الدائن يرفض ذلك بداعي أن البنك سيحجز على أمواله في اليوم التالي إن لم يسدّد القرض الذي استفاد منه.
ويكون الصراع بين الأرملة والدائن إلى أن تهمّ بإطلاق النار عليه من مسدس زوجها الراحل والذي لا تُجيد استعماله، الأمر الذي يستغربه الدائن ويدفع به إلى تعليمها كيفية استعمال السلاح.
وما هي إلاّ دقائق حتى يكتشف الدائن مكامن جمال هذه المرأة الضروس فيحبها، وتجد هي فيه الرجل الصلب الذي يدافع عن موقفه بثبات وقوة فتحبه، وهذا ما ينعكس بسرعة على علاقتهما، فتقلب من التنافر إلى الحب.
ويقدّم النص تشريحا لطبيعة العلاقات التي توجد بين شخصيات المسرحية وقدرتها على التعايش مع التناقضات البينيّة التي تجمعها. فالزوجة التي أحبت زوجها بصدق كانت على علم بكل الخيانات التي يمارسها في كل يوم وفي كل زاوية من مكان عمله. لكنها بقيت رغم ذلك وفية له ولزواجها منه، بل إنها حافظت على ذكراه حتى بعد مماته.
وعن الدافع الذي جعله يقدّم نصا مسرحيا شهيرا قدّم آلاف المرات عبر ما يقارب المئة عام، وما إذا كان الهدف من ذلك هو إعطاء الناس جرعة من الكوميديا في زمن صعب، يقول مخرج العمل مأمون الخطيب “المسرحية قدّمت في كل مسارح العالم لأهمية كاتبها أنطون تشيخوف وكذلك لطرافة فكرتها. فموضوع المسرحية ليس فقط الحالة الكوميدية الراقية التي تحملها، رغم احتياج الناس لها في هذه الفترة العصيبة التي يعيشونها، لكن الهدف الأهم هو تقديم نص مفعم بالعشق وحافل بطاقة الحب الكامن الذي يتّقد في قلب هذين الشخصين اللذين يتحوّل التنافر بينهما إلى علاقة حب، فنحن كبشر بحاجة إلى هذا الحب والبحث عنه. كذلك يقدّم العرض حجم الحب الكبير الذي يمتلكه بعض الأشخاص والذي يكون مختبئا بحاجب من الفظاظة والعنف الذي تظهر عليه الشخصية أمام الناس”.
ويغامر الخطيب في عمله الجديد بتقديمه ممثليْن شابيْن قاما بأداء الدورين الأساسيين ولم يقدّمه من خلال ممثلين محترفين معروفين سبق وأن قدّموا أعمالا احترافية.
وعن ذلك يقول “هي مغامرة وتحدٍّ، وهو تأكيد منّي على ضرورة إعطاء هؤلاء الشباب فرصتهم الكاملة في تقديم عروض مسرحية احترافية بكامل الثقة لكي يكونوا على معرفة وتماس مع تغيّر المسار الفني بين مرحلتي الاحتراف والدراسة التي سبقتها. وأنا أعلم تماما السوية التي يعمل بها البطلان كوني درّستهما سابقا في المعهد العالي للفنون المسرحية، لذلك كانت مغامرتي كما أزعم مضمونة النتائج”.
وهو يرى من الضروري العمل على منح الشباب فرصا، ليكون ذلك رافد للحياة المسرحية خصوصا والفنية عموما بطاقات شابة ستكون في يوم ما صاحبة الظهور القويّ الحاسم في مشهد الفن السوري.
وسبق لمأمون الخطيب أن تعاون مع طارق عدوان مسرحيا فقدّم عروضا من إعداده، كما عمل مع عدوان في فيلم سينمائي قصير قام بتصويره قبل فترة، وكان الخطيب أحد أبطاله.
تعاون فني
![]() |
![]() |
![]() |
يقول الخطيب عن تعاونه الجديد مع طارق عدوان “العرض تجربة جديدة بيني وبين طارق عدوان، فقد تعاونا في فنّيْ المسرح والسينما وأنا أرتاح للتعامل معه، لأنني أعتبره إنسانا مبدعا يمتلك طاقة وذهنية خاصة تجعله في مصاف من يقدّم فنا راقيا وجميلا، ولكونه مخرجا سينمائيا أكاديميا درس الثقافة الروسية فهو يمتلك تلك الحساسية التي تميّز هذه الحالة والتي تؤهله للدخول في عمق فكر الكاتب تشيخوف، والتعاون الأول كان من خلال مسرحية ‘بستان الكرز’ لتشيخوف نفسه”.
وكتب تشيخوف مسرحيته “الدب” عام 1888 ونشرها باسم مستعار أولا، لكنه سرعان ما تبناها، وهي إحدى ست مسرحيات كوميدية كتبها. وعندما قدّمت إلى الرقابة المسرحية الروسية حينها كانت النتيجة سلبية، وكادت الرقابة تمنع عرض المسرحية، لأنها برأيها “تثير انطباعا سيئا وموضوعها أكثر من غريب وتسودها الفظاظة”.
كذلك كان رأي إدارة المطبوعات التي وصفتها بالعمل التافه، ولكنهم سمحوا في النهاية بنشرها كونها لا تتضمن الإساءة إلى أحد. وقدّمت المسرحية للمرة الأولى في نفس عام تأليفها في أحد مسارح موسكو ولاقت ترحيبا جماهيريا كبيرا، الأمر الذي دفع تشيخوف إلى الكتابة عنها قائلا “كانت القهقهة سائدة ومتواصلة أثناء العرض، وقوطعت بعض المشاهد بالتصفيق، وبعد انتهاء العرض صفّق الجمهور لها وطلب ظهور الممثلين مع المؤلف وصفقوا لهم”.
وحضر المسرحية عام 1900 الكاتب الروسي الشهير تولستوي وكان معجبا بها وكان يقهقه أثناء عرضها، كما كتبت زوجة تشيخوف. وترجمت المسرحية إلى عشرات اللغات العالمية وقدّمت على مسارح معظم دول العالم، كما ترجمت إلى اللغة العربية في العديد من المرات وتحوّلت إلى السينما من خلال السينما السوفييتية في ثلاث مناسبات، وهي على التوالي في العام 1934 و1984 وأخيرا عام 1988، كما قدّمت في الأوبرا ملحّنة.