الداء فينا والإنكار داء آخر
وقوع الكارثة خير من توقعها. ما عسانا نقول بعد هذا القول المأثور؟ هل يكفي أن نحمد الله على أننا لم نتوقع كل هذه الفواجع الموجعة؟ وهل يحق لنا أن ننعم بترف الوقوف مذهولين أمام ذواتنا، حائرين أمام حقيقتنا؟ كأنّنا شيء آخر، شيء لم نصادفه من قبل، كأنّنا ولزمن، كنا نرتدي قناع تمدن كاذب وفجأة سقط القناع.
لعل تجليات السقوط كثيرة، من نقص منسوب الأناقة واللياقة واللباقة، إلى العنف والخوف والتطرف من سواحل المحيط إلى أبعد من مياه الخليج. هل صرنا بمثل هذه البشاعة والفظاعة والوضاعة؟ قلنا في سرنا وجهرنا، لا يمكن لهذه الوجوه الشرسة المتعطشة للدماء الآدمية أن تشبهنا، لا يمكن أن نكون نحن بمثل هذه الصورة، وأي تشابه في التفاصيل ليس سوى صدفة أو مصادفة.
ربما الذي يحدث لا يحدث أساسا، كل هذه الصور من الدماء الآدمية مجرد هلوسات من نسيج خيال “كافكاوي” مرعب، وربّما هناك تشوه في انعكاس الضوء على صفحة الأحداث. لكن، عن أيّ أحداث نتكلم؟ نحاول أن نقنع أنفسنا بأن هذا الذي يحدث لا يحدث بالتمام، لا يحدث إلا من باب التمويه. مؤكد أن حواسنا تخدعنا في إدراك الموضوعات كما يقول ديكارت. حواسيبنا أيضا تخدعنا ويا للمصادفة! لكن الذي لم يقله ديكارت هو أن حواسنا تخدعنا في إدراك الذات أكثر ما تخدعنا في إدراك الموضوعات. من ذا الذي بوسعه أن يرى نفسه؟ من يستطيع أن يميز صوته؟ من يشم رائحته؟ من يتذوق رحيق شفتيه؟ تحتاج معرفة الذات إلى مسافة مع الذات.
إنها المسافة التي نخشى أثناءها، أو على إثرها، من ضياع الذات. وهذا اعتراف عفويّ بأنّ الذات بالغة الهشاشة وعلى وشك الضياع. هنا يصبح الخوف من الضياع مشكلة حقيقية؛ لأنه المانع الأكبر من إنجاز أية خطوة نحو المستقبل طالما أن التطلع إلى المستقبل بمثابة اقتحام للمجهول. نحن، من عاداتنا في السفر الطويل أن نجلس على مقاعد القطار التي تنظر إلى الخلف؛ لأن النظر إلى الأمام يتعبنا. المشكلة أكبر مما نتصور. تموت الحضارة عندما تموت إرادة الحياة عند معظم أفرادها. وما إرادة الحياة؟ إنها الاندفاع الحيوي نحو المستقبل المجهول. هذا هو درس أبي القاسم الشابي، نبع الثورة التونسية، الدرس المنسي لثورات توشك أن تصبح مغدورة. ما المشكلة؟ يحتاج إدراك الذات إلى أبعد من مجرد مسافة مع الذات، إلى استيعاب رأي الآخر، رؤية الآخر، مرآة الآخر. لكن هل تعلمنا حقا فن الإصغاء لما يقوله الآخر عنا، حتى ولو من باب الحكمة التي تقول إنّ في الخطأ بعض الصواب؟
نعزي أنفسنا بتمجيد أجوف للذات بعد أن اختزلنا الذّات في مجرد بعد واحد هو الدين، ثم اختزلنا الدين نفسه في آراء بعض الفقهاء وصفحات من كتب صفراء، فأصبحت ذاتنا مجرّد أنقاض لهيكل متهالك، بلا أدب، بلا فنون، بلا معلقات، بلا رباعيات، بلا لزوميات، بلا موشحات، بلا شيء يذكر. لذلك لسنا نرى في هذا الخراب الداخلي سوى غياهب ظلماء ورايات سوداء. ونكابر وننكر ولا نرى في هذه الفظاعة سوى أشباح الليل أو مجرد إشاعة. إيه، لا يزال الفجر بعيداً، فلنعد إلى مغارتنا.
كل ما نفعله إلى حد الساعة أنّنا نرفض تقبّل الحقيقة. نمارس سيكولوجية الإنكار. إجراء نفسي تلقائي لأجل تفادي الصدمة. ومن يتحمل كل هذا الجحيم من الرّعب الذي يجاورنا ويحايثنا كأنه ظلّنا بل شبحنا الذي يسبقنا؟ إلى أين؟
أحيانا قد يكون إنكار الواقع مجرّد تنصّل من المسؤولية. أو هو رد فعل دفاعي لا شعوري، ثم ماذا؟ لابدّ من فهم آليات الإنكار أولا. نحن نحاول أن نفسر لا أن نبرر، أو تلك نوايانا في الأخير. هل جرّب أحدكم الشّعور الذي ينتاب الإنسان حين يخبره الطبيب فجأة بأنّ أمه مصابة بمرض مزمن أو عضال؟ الإنكار هو رد الفعل العاطفي الأولي والعفوي والتلقائي. ستقول للطبيب، هذا لا يمكن، أنت مخطئ، هناك بالتأكيد شيء غير دقيق، هناك سوء فهم ما، هناك تسرّع في الاستنتاج. وقد تبحث عن طبيب آخر عساه يمنحك الوهم الذي تريد أن تسمعه: لا مشكلة، لا داعي للقلق، لربّما لم يكن التشخيص دقيقاً، سنحاول مرّة أخرى.
يلزمك كثير من الوقت حتى تستوعب الحقيقة، المرض مزمن وعضال وقد يكون قاتلا. وفقط أمامك خيار واحد، مواجهة الحقيقة بكل شجاعة. نعم، داخل ذلك الجسد الذي حضنك طويلا، هناك ورم خبيث ينتشر، هناك تعفن داخلي يطلق رائحة نتنة، نعم هي أمك، لكن هذا الجسد يوشك أن يصبح جثة هامدة. هناك وهم عملي، التحنيط، ثم تغليف الجسد المحنط بالكفن الأسود حجبا للموت نفسه. نحتاج إلى الكثير من الثوب الأسود لحجب حقيقتنا عن أنفسنا.
هنا نفهم لماذا ربط اليونانيون الحقيقة بالشجاعة. لقد بيّن أب الفلسفة السياسية أفلاطون بأن الحقيقة تعمي العيون التي اعتادت على ظلمة الكهف. العيش في كنف الكهف أوهمنا بأن كل شيء على ما يرام، وبأنّ الشر لن يأتينا سوى من خارج كهوفنا الساكنة. إنه كهف المجتمعات المغلقة بالمعنى البوبري، نسبة إلى كارل بوبر. والآن، علينا أن نحدّق في أجسادنا، في داخل أجسادنا، في أورامنا الداخلية والخبيثة، وأن نعترف بهول الدّاء قبل انطلاق رحلة العلاج التي قد تطول. فقد تأخرنا كثيراً، تأخرنا أكثر من اللزوم، بل لا نزال نعيش مرحلة الإنكار. نرخي السّمع لكل بائع أقوال أو دجال من العالم الآخر، وما أكثرهم، يبيعنا نحن المسلمين الوهم بأننا على أحسن ما يرام، وبأنّ الخطأ كل الخطأ في الاستعمار أو الامبريالية أو الغرب الصليبي أو المؤامرة الصهيونية أو الماسونية إلخ. أولئك الذين نسميهم عقلاء الغرب، حكماء الغرب. ويا للمفاجأة، نحن الذين نضع العلامات هذه المرّة، وكيفما اتفق! وإن كان لابدّ من رؤية عطب داخلي فلننظر – كما يوصي بعض شيوخنا الأوصياء – إلى داخل لم يعد داخلا، داخل دخيل، داخل منزاح عنا، الشيعة مثلا، الصوفية، الإيزيدية، الدروز، إلخ، المهم أن ننزاح عن نقد الذات. صدقاً، كم كان الزعيم الوطني المغربي علال الفاسي نبيها يوم كتب كتابا يقول عنوانه كل شيء: “النقد الذاتي”.
الاعتراف فضيلة، بل أم الفضائل. فهل نملك ثقافة الاعتراف؟ آه، نحن أمة من ابتلي منكم فليستتر. نفهم الأمر بهذا النحو، من ابتلي منكم بالعنف والتطرّف والإرهاب فليستتر. لكن، ماذا بعد أن تحول هذا “الابتلاء” اليوم إلى فضيحة مجلجلة؟
كاتب مغربي