الخليج ليس "شوال أرز".. ومصر شقيقة كبرى

الكتابة عن العلاقات بين القاهرة ودول الخليج في أي صحيفة مصرية عملية مستحيلة تقريبا. غالبية المسؤولين يفضلون عدم الخوض في هذا المجال، طالما أن العلاقات جيدة. وإذا ساءت لأي سبب قد يصبح الأمر مستباحا وبلا ضوابط.
الحساسية التي يتعامل بها عدد كبير من الإعلاميين في مصر مع الشأن الخليجي، تعكس حالة أشدّ تدور على المستوى الشعبي ووراء الكواليس. هناك اعتقاد لدى قطاع كبير من المصريين أن مواطني دول الخليج لديهم نظرة استعلائية مادية. وهؤلاء لديهم اعتقاد أن المصريين يتعاملون معهم باعتبارهم مصدرا للمال وفقط.
كل محاولات تقريب المسافات لم تحقق نتائج طيبة على الصعيد الشعبي، وفشلت في سد الفجوة، وظل الشعور بعدم الثقة مسيطرا. في الظاهر تبدو العلاقة هادئة. ويطغى الجانب السلبي عند أول محك وعلى مستويات مختلفة. كل طرف يعرف ما يدور جيدا في ذهن الآخر ويتعمد تجاهله، ويقبل بما يقدّم من تفسيرات لعدم الدخول في مشكلات.
منذ أربعة أيام، فجّر تركي آل الشيخ، رئيس الهيئة العامة للرياضة في السعودية (وزير الرياضة) قنبلة من العيار الثقيل، كشفت الكثير مما يعتمل في صدور مصريين تجاه الرجل الذي صاغ بيانا صادما، أخرج ما يدور في الخفاء للعلن.
الاستقالة المسببة من رئاسته الشرفية للنادي الأهلي، أكبر الأندية في مصر وأكثرها شعبية، التي أعلنها على حسابه الشخصي، على فيسبوك، حملت مضامين شعبية كان يخشى كثيرون من التوقف عندها، بحجة الحفاظ على العلاقات، أو بذريعة المصالح المتشابكة، أو لتجنّب تفجير الجروح التي تعيق تطوير للعلاقات.
بيان آل الشيخ، تطرّق لتفاصيل كثيرة، عبّرت عن رغبة راودت الرجل في دعم النادي الكبير. لكن إشارته إلى أن إدارة الأهلي تعاملت معه كأنه “شوال أرز”، أي حقيبة نقود للصرف على النادي واحتياجاته وصفقاته، ألمحت إلى نظرة غائبة عن الكثير من التحليلات أو يتم غض الطرف عنها لأنها تتكرر على ألسنة مصريين بصيغ مختلفة.
لدى فئة من هؤلاء هواجس حيال رغبة آل الشيخ، وكل خليجي آخر، تشي بإمكانية شرائهم بالمال. لذلك ضغط جمهور النادي بقوة على إدارته، التي احتارت بين الاستجابة له، وبين القبول بوضع آل الشيخ كرئيس شرفي ومموّل للنادي، أنفق خلال ستة أشهر حوالي 15 مليون دولار على الأهلي.
في البداية، حاولت إدارة النادي التوفيق بين المموّل والجمهور، وفي النهاية انحازت لموقف الثاني، وهي معتقدة أنها سوف تحتفظ بالأول، الأمر الذي لم يقبله آل الشيخ، وأثبتت استقالته أنه ليس “شوال أرز”، ولا يريد فرض هيمنته على نادي مصري.
الاستقالة المفاجئة، كادت تدخل مناحي أخرى، جرّاء ما تضمّنته من تلميحات تنمّ عن علاقة آل الشيخ بالقيادة السياسية في مصر.
الخوف من تحويلها لقضية رأي عام، دفع جهات مسؤولة للتنبيه على وسائل الإعلام الرسمية والقريبة من الحكومة بتجاهل القضية، خشية قيام البعض بتوظيفها ضد العلاقات بين مصر والسعودية.
البيان ينطوي على تفسيرات سياسية كثيرة، ليس هذا وقت الوقوف عندها، لأن التفسيرات الاجتماعية ربما تكون كافية لمعرفة أزمة عدم الثقة المكتومة بين مصر ودول خليجية حليفة، فشلت المحاولات التي بذلت من الجانبين في تجاوزها، على الرغم من الأهمية الإستراتيجية التي تعيها القيادات الرسمية في هذه المرحلة.
النظرة الشعبية السلبية، جاءت نتيجة تراكمات وتصرّفات تاريخية، خلقت فجوة لم ينتبه لتداعياتها كثيرون من أصحاب الحل والعقد. تُركت تتضخم بلا سبب مقنع. تولدت عنها مواقف جلبت معها مردودات قد تعيق التطور الإيجابي مستقبلا.
النظرة القاصرة، ظلت حبيسة لتقديرات سابقة، لم تكن فيها العلاقات على هذه الدرجة من المتانة، وتتجاهل المعطيات التي تفرض التقارب الشعبي، بعد تنامي العلاقات الاجتماعية جرّاء العمالة المصرية الكبيرة في دول الخليج، والزيارات المتكررة لمئات الآلاف من مواطني هذا الدول لمصر في الآونة الأخيرة.
البعض يعتبر هذه الزاوية أحد الأسباب الرئيسية لحالة عدم الثقة الراهنة، لأن الاحتكاكات الكثيفة ضخّمت من الحساسية ولم تتخلّص منها. والبعض يرى أن الفجوة ظاهرة عربية، ليست قاصرة على مصر والخليج. هناك مسافة تتزايد. شعور جارف بالقطرية والطائفية على حساب روابط العروبة.
الأزمة في الحالة الخليجية أن ملامح التعاون والتنسيق والتحالف كثيرة ومتشعبة. تحتاج ما يوازيها على المستوى الشعبي، كي تفضي إلى روافد تعمّق الروابط السياسية، وتنعكس على ما يتطلع إليه كل جانب للآخر.
الحساسية الشعبية يمكن أن تتسبب في أزمات سياسية. فقد لعبت دورا في تأجيل حسم مصير جزيرتي تيران وصنافير. الموقف الرسمي المصري، بمستوياته المختلفة، الحكومة والبرلمان والقضاء وغالبية الأحزاب، أكد أن الجزيرتين سعوديتان. لكن الموقف الشعبي لم يقتنع بما يثبت أن القاهرة ردت وديعة للرياض ولم تتنازل عن حقوق.
هناك من قام بتغذية المعارضة، ويدرك أن قطاعا كبيرا من المواطنين على استعداد لتقبل التغذية المرتدة التي غاب فيها العقل والمنطق، وتقدمت العواطف والمشاعر.
نعم الحكومة فرضت إرادتها ورغبتها في رد الجزيرتين للسعودية، لكن حتى الآن يوجد من يعتقد أنها تنازلت تحت سيف المال ولم تُراع المصالح القومية، وأن الرياض ضغطت ماديا للحصول على الجزيرتين. المهم دخلت القضية مربع الحساسية المعتادة، ما أخرجها من إطار الموضوعية والحقوق.
هذا الاعتقاد يسيطر على تفكير كثيرين ممن يقتنعون أن دول الخليج “شوال أرز”، ومصر ليست شقيقة كبرى وحسب. يحرص مؤيدو هذا الفريق، على عدم مبارحة المربع السلبي، ويصمم أنصاره على النظرة الفوقية العكسية، وتدور حول تاريخ مصر العريق، وتاريخ الخليج الحديث.
الخوض في هذه الازدواجية، يؤدي بنا إلى نتيجة عدمية. يدخل الحوار إلى مربع اللاجدوى، ويضاعف من الأزمة، وربما يمنحها أبعادا تتجاوز الحدود الاجتماعية.
يمكن التوقف عند أربعة محدّدات قد تجلي الكثير من الصدأ وتوقف ما يترتب من مشكلات جرّاء استمرار نزيف الحساسية.
الأول، لا توجد دولة تحتكر الحضارة على طول الخط. التطور مرهون بما يتحقق من تقدّم على جميع المستويات في أي دولة، ولن يكون راضخا لحسابات التاريخ وكفى. دول الخليج حققت قفزات خلال فترة وجيزة، ولو ثمة استعلاء لدى بعض المواطنين على مصريين وتفاخرا بالثروة، فهناك ودّ أكبر من خليجيين لمصر ومكانتها.
الثاني، توجد نخب في دول الخليج ناضجة لا تعتد بالمال أو تتفاخر به، بل تسعى نحو العلم أولا. وهناك نخب مصرية ترى مصالح حيوية مع دول الخليج كفيلة لضبط الحساسية التقليدية، والخروج من النظرة الضيقة التي أصبحت رهينة للماضي.
الثالث، التخلّي عن فكرة المعادلة الصفرية في النظام الدولي. فلا أحد يربح دائما أو يخسر أبدا، ولا توجد منافسة بين من يقود ومن يتبع. المصالح المتزايدة جعلت من توزيع الأدوار بين الحلفاء عنصرا مركزيا. الخروج من شرنقة الرؤية الشعبية القاصرة مهمة قبل أن تؤدي إلى عقدة سياسية.
الرابع، التحالف المصري الخليجي أصبح من الثوابت الإستراتيجية، لأن التحديات واحدة أو متقاربة، والخلاف يدور معظم في نطاق التفاصيل. الحد من المعتقدات الخاطئة لدى الشعوب من الضروري أن يكون هدفا رئيسيا، إلا إذا كان تكريس الحساسية الشعبية هدفا سياسيا، أو أداة يتم توظيفها عندما تتباعد المسافات.