الخبز: رمز عربي موحد في التراث والتاريخ والتقاليد الاجتماعية

للخبز في الحياة العربية الإسلامية حضور كثيف، إذ يتجاوز دلالته المباشرة المتصلة بالغذاء، لينفتح على دلالات أرحب تتضافر فيها الأبعاد الدينية والتاريخية والسياسية والأدبية والاقتصادية. لذلك أضفى العربي على الخبز جملة من المفاهيم الرمزية اختزل من خلالها حياته وتصوراته ومعتقداته، ولئن اختلفت تسميات الخبز من قطر إلى آخر إلا أن الإجماع العربي على أهمية الخبز يبدو ملفتا وجديرا بالتأمل.
الاثنين 2016/07/11
الخبز دال على الحياة

الخبز عادة غذائية قديمة قدم الإنسان يعود تاريخه إلى الفترة التي بدأ فيها الإنسان يطحن الحبّ برحى بدائية من حجرين حوالي ثمانية آلاف سنة ق.م، قبل أن يبدأ في صقلها تدريجيا عبر القرون لتصل إلينا في إخراج الرحى التقليدية التي لم يكن يخلو منها بيت وخيمة في الأراضي العربية لعقود قليلة مضت.

لقد صار الخبز أهمّ عنصر في نظام الإنسان الغذائي عندما بدأ يستقر لزراعة القمح، وعندما طوّر من وسائله التقنية أصبح يخـبز العـجين ثمّ يضعه فوق حجارة يتم تسخينها لطهيه. ثم تطور الخبز بتطور الإنسان وظلّ لصيقا به وبحياته ورمزا من رموزها، فيسمّى عند العرب بالرغيف والعيش بإطلاق الجزء على الكلّ ليمثل الحياة لأهميته الغذائية الأساسية عند مختلف الشعوب وتعددت أنواعه وتسمياته من بلد إلى آخر، فنجد الخبز العربي أو البَلَدي أي التقليدي في مناطق المغرب العربي، والعيش البَلَدي في مصر، وخبز الصاج في منطقة الشام والخبز اللبناني وغيرها من الأسماء التي تختلف باختلاف البلد وعاداته. ويختلف شكل الخبز ولونه ومذاقه من بلد عربي إلى آخر، أو حتى في البلد الواحد نفسه، إلا أن رمزه يظلّ موحدا في التراث والتاريخ والتقاليد الاجتماعية اليوم كما هو عبر الآلاف من السنين.

علاقة الخبز بالحياة علاقة عميقة جعلت الشعوب تنسج منها أسطورة خرافية تشبّه العجين برحم المرأة الحامل الذي يكبر شيئا فشيئا إلى أن ينضج فيقدم الحياة.. تماما كما العجين الذي يرتفع بالخميرة إلى أن يصبح جاهزا ليخبز ويؤكل. يصبح الخبز هنا كائنا حيا يصنع الحياة، بل هو الحياة في حدّ ذاتها تصف التحوّل والخلق حيث تتحول حبات القمح إلى دقيق ثم عجين ثم خبز طريّ شهيّ في عملية شبيهة بالمخاض تنتظر فيها المرأة – وهي تقلّب العجين على النار وتقلب معها آمالها وانتظارها الذي يزداد مع حرارة الفرن أو التنور – ما صنعته يداها وهي سعيدة تقدّم الخبز والحياة لأطفالها وعائلتها.
التاريخ الإسلامي أكد أن السلاطين كانوا يحرصون على تحديد سعر الخبز، تفاديا لما ينجر عنه من تهديد الأمن
فقد ارتبطت رائحة الخبز برائحة الأم والبلاد والفردوس المفقود، وهو ما عبّر عنه محمود درويش في قصيدته “أحنّ إلى خبز أمي”. فنكهة رائحة خبز الصباح قريبة من رائحة الأرض والأمومة.

إنّ ارتباط الخبز بالحياة يعود إلى علاقته بالأرض وهو النبات الذي تخرجه الأرض الولاّدة خاصة إذا كان هذا النبات قمحا أو شعيرا، فيتخذ الخبز بعدا قدسيا لكونه مصدر الخير والتفاؤل كما ساد في المعتقدات الشعبية، وهو ما يجعل الناس يعتبرون الخبز نعمة من نعم المولى وجب احترامها وعدم الإلقاء بها في الطريق أو المزبلة وتفترض بعض التقاليد رفع قطعة الخبز وتقبيلها ووضعها جانبا خوفا من أن يدوسها أحد.

كما ارتبط الخبز بالأمثال الشعبية فيعتقد أنه يشكل رابطا قويا بين شخصين فيقال مثلا “بيننا خبز وملح” إشارة إلى أن الوفاء والثقة واجبان بين الاثنين. ويقال “الخبزة مُرّة” بمعنى أن العمل الشاقّ صعب من أجل الحصول على لقمة العيش. فيصبح الخبز اسما دالا على العمل ومصدر الرزق والحياة، وهو ما نجده في دلالة الخبز في المنام كما يفسره التحليل المنسوب لابن سيرين، فيدل على سعة الرزق والدين والحياة الرغيدة والهنيئة، ومن رأى أنه يفرق خبزا على الناس أو الضعفاء فإن كان من طلاب العلم فإنه ينال من العلم ما يحتاج إليه.

وربما دل الرغيف على الأم المربية والمغذية التي بها صلاح الدين وصون المرأة، والمُنَقّى منه دال على العيش الصافي والعلم الخالص والمرأة الجميلة. وليس غريبا أن يكون الخبز محور الثورات التي عرفتها الشعوب وأشهرها الثورة الفرنسية التي كانت شرارتها تأزم حال الخبز في البداية ليتحول إلى اضطراب وثورة. فكان الخبز ولا يزال شأنا سياسيا بالغ الحساسية وسريع الاشتعال. ويؤكد التاريخ الإسلامي أن السلاطين كانوا يحرصون دائما على تحديد سعر الخبز، خصوصا في فترات الحروب والجفاف والكوارث الطبيعية وذلك حرصا على توفير الخبز للناس بطريقة متساوية تفاديا لما ينجرّ عنه من مشاكل تهدد الأمن والاستقرار.

ولم تتغير الأمور كثيرا في عصرنا عمّا كانت عليه في العصور الغابرة. وفي البلاد العربية هناك أكثر من اضطراب وقع في القرن العشرين بسبب الخبز شأن انتفاضة الخبز في مصر سنة 1977 حين حاولت الحكومة تقليص دعم الخبز، وفي تونس سنة 1984 بسبب الزيادة في سعر الخبز، وفي سوريا حيث أدى التخفيف في وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج في الأربعينات من القرن الماضي.

لم يؤثر الخبز في السياسة فحسب بل كذلك في الأدب العربي قديمه وحديثه، فكان محورا من محاور اهتماماته

لم يِؤثر الخبز في السياسة فحسب، بل كذلك في الأدب العربي قديمه وحديثه، فكان محورا من محاور اهتماماته تارة في الجدّ وطورا في الهزل، في الملهاة والمأساة على حدّ السواء. فبعض نوادر الجاحظ في كتاب البخلاء ارتبطت بالخبز، فقد جَلَدَ أحد البخلاء الأثرياء خبّازه لأنّه أنْضج الخبز ووضَعَه أمام الضيف وكان قد أوصاه بعدم إنضاجهِ لئلاَّ يأكله حيث قال “أُنضج خبزي الذي يوضع بين يدي واجعل خبز من يأكل معي على مِقدارٍ بين المقدارين. وأما خبز العِيال والضيف فلا تقربّنه من النار إلا بقدر ما يصير العجين رغيفا وبقدر ما يتماسك فقط”. ولما أعجز ذلك الخبّاز نال نصيبه من الجلد والعقاب.

أمّا في الأدب العربي الحديث فقد تعددت الروايات العربية حول الخبز شأن رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري وهي في صميم واقع الصراع اليومي للإنسان مع الخبز والقوت، ورواية الرغيف للقاصّ اللبناني توفيق يوسف عوّاد التي تلخص السعي وراء الرغيف والكدِّ للحصول عليه زمن الحرب، ولعل ما ذكره في الإهداء يلخص

قيمة الخبز في حياة الناس فيقول “إليك، يا أبي أقدّم هذا الرغيف.. فقد قدّمْت أنت إليّ في أيام الحرب الكبرى، وإلى إخوتي وأخواتي، أرغفةً سكبْتَ لها عَرَق جبينك ودمَ قلبك”. فالرغيف يصبح رمزا للصمود والعمل والتضحية من أجل تحقيق حياة كريمة.

12