الحكومة حكيمة.. نفذ ما تطلبه منك

الحكومة حكيمة، هذه العبارة أو الدلالة لست أنا صاحبها، أو نقلتها عن مثل شائع لفيلسوف أو حكيم. صاحبها الحصري الزميل الراحل الشاعر سامي مهدي، قالها لي خلال أيام الحرب العراقية – الإيرانية. كنا أنا وهو زملاء عمل إعلامي تعبوي؛ كان مديراً للتلفزيون، وكنت مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون. كان ظرف العمل شاقاً. دخلت يوما إلى مكتبه مقهوراً منزعجا من ضغوط رئاسة الجمهورية، قلت له لا أتحمل بعد تلك الضغوط. أجاب بابتسامته الصامتة: ماجد الحكومة حكيمة، بمعنى عليك أن تنفذ ما تطلبه منك.
اعتقدت، وهو الواقع، أن الشاعر سامي أنتج هذا الربط المنطقي السياسي من بداهته التلقائية في رده الهادئ على ثورتي وغضبي. فهو لم يأخذ العبارة الدالة من أرشيف سياسي، أو ما درج من أمثال؛ لأنني حاولت العثور على هذه العبارة، “الحكومة حكيمة”، في المدلولات والتراث السياسي وفي المعجم اللغوي العربي، لم أجدها.
بالمناسبة، كان المبدع الشاعر سامي صريحا وصادقا في آرائه، لذلك آثر الصمت خاصة أمام الموظفين الذين يحاولون استفزازه لكي يتكلم. صدقه دفع بعض زملائه إلى النفاق الكاذب ضده عند أعلى المسؤولين في النظام السابق. اليوم في ظرف النفاق والزيف تطلق سهام التشويه للصادقين أصحاب ملحمة الحب بين الناس في زمن الكذب والرياء والكراهية. جراح الحب والكراهية لا تندمل.
◙ الحكومات ورؤساءها خاضعون بقوة لقادة الأحزاب الذين يديرون أخطر مافيا عالمية في القرن الحادي والعشرين، مكانها للأسف الشديد بغداد وضحيتها شعب العراق
اقتنعت بتلك الوصية الصادقة من زميلي الراحل، وحملتها عشرين عاماً قبل قيام الحكم الفاسد عام 2003. كانت تعبر عن حقائق الدولة المستقرة وحكوماتها خلال ذلك العهد، دون ربط سخيف بوصفة الدكتاتورية. في ظل ذلك النظام كانت هناك حكومة تتحمل مسؤوليات تنفيذ برامجها بوزرائها ومسؤوليها في جميع الدرجات الوظيفية، من أجل رفاه شعب العراق وسد حاجاته التامة في الغذاء، بعد الحصار الظالم الذي مهد لإسقاط النظام عام 2003.
كانت النزاهة عنوان العاملين في تلك الحكومة، من أعلى مسؤول حتى أصغر موظف، لا فساد ولا تعطيل برامج، بل مبادرات من العاملين بمختلف الاختصاصات. لا نحتاج إلى أمثلة كشفت عن الروح العراقية الصامدة والمبادرة في مواقع كثيرة بعد حرب عام 1990 وحصار دام 14 عاماً. فالأمثلة كثيرة، منها إعادة الأبراج المدمرة للكهرباء والاتصالات، التي لا نستغرب غيابها اليوم لعدم وجود حكومة ليست حكيمة، إنما منظومة للفساد والتخريب.
لا سبيل للمقارنة بين حكومة ما قبل عام 2003 وبعده، لأن العقل والنظام السياسي الذي أدار حكومة ما قبل 2003 هدف إلى خدمة المواطن، لهذا كانت حكومة قوية، ومسؤولوها لديهم مكانة احترام المواطنين والتفاعل معهم.
لكن، بعد عام 2003 ثار شعب العراق بمقاومة مسلحة شاملة في جميع مناطق العراق العربية، رغم فتوى السيستاني المحبطة للعراقيين “بعدم مقاتلة المحتل”. تلك المقاومة المسلحة دفعت القادة العسكريين الأميركان الميدانيين طلب 200 ألف جندي جديد للسيطرة على الميادين، لكن القادة والمسؤولون في الكونغرس الأميركي رفضوا الطلبات خوفا من ضخامة التكاليف المالية والبشرية. في تلك اللحظة سقطت نظرية جعل العراق قاعدة ما سُمّي بالديمقراطية في المنطقة، ومعها سقطت نظرية الفوضى الخلاقة لكونداليزا رايس اليمينية.
كان الخيار الحقيقي ترك شعب العراق تحت رحمة مجموعة سياسية مُتقنة الإعداد لتدميره، وهذه ليست نظرية مؤامرة بل حقائق وقعت على أرض العراق، من فئة ادعت تمسكها بالمشروع الإسلامي الشيعي، بالترابط مع برنامج النهب وحرمان المواطنين من حقوقهم بموارد بلدهم.
هيمنة تلك الأحزاب جرت وفق منطق مافيوي غريب؛ الهيمنة على المال العام في حكومات مصدرها واحد، فهي من حيث الواقع حكومة واحدة لأحزاب سمّت نفسها إسلامية، تأخذ أشكال حكومات عبر مهرجانات انتخابات أصبحت تجري حسب الحاجة، بعد أن كانت تقام كل أربع سنوات في عهود رموز الكذب والدجل السياسي الأوائل. غابت حكومات العدل والحكمة مع غياب الدولة العراقية العتيدة، حيث تحول جهاز نظام الفساد التنفيذي إلى وسيلة لتغطية السرقات المليارية وليس تقديم الخدمات الطبيعية بموجب الحقوق العامة.
المتابع اليومي لمهرجان أعلى المؤسسات الحكومية في فنون السرقات الكبرى، التي فاجأت أعلى المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها مؤسسة البنك الاتحادي الأميركي المصدوم بطرق وأساليب الأجهزة المالية التنفيذية في العراق، وهي التي أشرفت على صناعته خلال فترة الاحتلال، لا بد أن يصدم.
يصاب العراقي المحبط المسروق بالذهول والغثيان؛ بلد بهذه العائدات المالية العالية تحصل فيه وعلى مستويات ضحلة تبريرات الكذب والمراوغة في حقائق النهب والفساد. صدمات مالية عالية لا يتردد المسؤولون في تبرير حصولها لأنهم يستخفون بعقول العراقيين، ومن حقهم ذلك لأنهم يعتقدون بأنهم يشترون صمتهم (بخردة) راتب تقاعدي أو وظيفي لعموم العاملين في دوائر الحكومة لا يسد الرمق.
لا نريد استفزاز مشاعر العراقيين. في دول الخليج يبحث الرؤساء من أمراء وملوك عن فرص لتقديم المال لأهلهم عبر زيادات الرواتب وسد القروض، وغيرها في مناسبات يصنعونها من أجل رفاه المواطن، لكن العراقيين صامتون لا يتساءلون عن الأسباب الحقيقية، وهي أن حكام العراق جميعهم منذ عام 2003 جاؤوا لينهبوا البلد؛ لهم حصصهم والباقي للغرباء من الجيران.
في بغداد لا يخجل كبار المسؤولين من تقديم تبرير فني علني للاستمرار مثلا في رفع سعر الدولار. وهي جزئية بسيطة مقصود إلقاء الأضواء الإعلامية حولها لإخفاء الحقيقة الشاملة المتعلقة بغربة النظام السياسي عن هموم شعب العراق.
الجميع مشترك في مهرجان توزيع أغطية ممزقة في الكذب على الناس، ولا تغرنّكم محاولات كشف ما سمّي سرقة القرن في لجنة تقصي الحقائق النيابية، فقد سبقتها قبل سنوات لجنة تقصي مماثلة تعلقت بأرواح 1700 من شباب سبايكر عام 2016 لأن الاتهامات شخصت المسؤول الأول في الحكومة آنذاك.
◙ العقل والنظام السياسي الذي أدار حكومة ما قبل 2003 هدف إلى خدمة المواطن، لهذا كانت حكومة قوية، ومسؤولوها لديهم مكانة احترام المواطنين والتفاعل معهم
المشكلة الحقيقية ليست في جزئيات الشعارات الدعائية لرؤساء الحكومات غير الصادقة، التي تختفي خلال أيام وفق اللعبة السطحية، ذلك أن هذه الحكومات ورؤساءها خاضعون بقوة لقادة الأحزاب الذين يديرون أخطر مافيا عالمية في القرن الحادي والعشرين، مكانها للأسف الشديد بغداد وضحيتها شعب العراق.
هل نتهم شعبنا العراقي بالجبن والاستسلام للسراق، وهذا مخالف لجميع موروثات المنطق. أم هو نتيجة وقوعه تحت تأثير الصدمة والإحباط؟ إنها عشرون سنة من الفقر والتشرد والبطالة التي يتعمد الحكام الشيعة تطبيقها على من ادّعوا زوراً تمثيلهم خلال أيام معارضة ما قبل عام 2003، والحالات الكارثية للنزوح القاسي لأهل العرب السنة، وفقدان عشرات الألوف من شبابهم المغيبين. يتاجر بعناوينها في هذا الملف أشباه السياسيين السنة، وواقعياً لم تكلف ممثلة الأمم المتحدة جنين بلاسخارت نفسها على سبيل المثال بزيارة مدينة جرف الصخر وما أدراك ما جرف الصخر، لأنها لا تريد الاقتراب من الخطوط الحمراء، فهي دجالة كذابة توزع باستفزاز مظاهر احتفالها بطقوس الأكلات الشعبية في النجف مثلاً، وسيلعنها التاريخ.
ثورة أكتوبر 2019 تم التآمر عليها بقوة ومكر خبيث لتمزيقها، رغم الـ800 شهيد الذين قدمتهم الثورة من أجل نيل الأهداف النبيلة.
هل ينتظر العالم شعبا للعراق ليخرج من تحت التراب ويسقط هذه المنظومة الفاسدة؟ منطق فيه نوع من الميتافيزيقا.
الأمثلة تتراكم حول نماذج الاستخفاف بالشعارات التي كانوا يغطون من خلالها لعبتهم؛ مثال سجن ناشط مدني هو حيدر الزيدي ظلماً ثلاث سنوات، لأنه كتب رأياً ناقداً على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يطلق سراح السارق الكبير المجرم أنور زهير جاسم.
هناك سيطرة كاملة للخوف على عقول كارهي شعب العراق، لذلك يواصلون الاندفاع في الانتقام المتواصل منه.
أين تلك الحكومة التي يستحقها شعب العراق، وهل هي حكيمة؟
لا أعتقد ذلك.