الحكومة المصرية تدفع فاتورة بشرية لإهمال الطرقات القديمة في الأقاليم

تولي الحكومة المصريةُ مسألةَ تطوير البنية التحتية، وبالأخص تدشين طرقات رئيسية جديدة وصيانة القديمة، اهتماما كبيرا. إلا أنها لا تلتفت إلى الطرقات الفرعية داخل الأقاليم وتركتها رهينة البيروقراطية الإدارية والإدارات المحلية، حتى أنها صارت سببا في حصد أرواح الآلاف من المصريين، وهو ما يستوجب سرعة التدخل لتطويرها.
القاهرة – تحصد الطرقات الفرعية بين أقاليم مصر أرواح العديد من الضحايا في حوادث متفرقة كل يوم، ما يلقي بظلاله القاتمة على طبيعة المشكلات التي تعاني منها طرقات لم تصلها الثورة الإنشائية في الطرقات السريعة والجسور، أو وصلتها بصورة مبتورة، وهي من الأسباب التي تجعل نسب الضحايا في تزايد، بجانب نقص وسائل الأمان ورعونة السائقين وانتشار تعاطي المخدرات بينهم.
وتبدو حصيلة حوادث الطرقات في مصر أكبر من حصيلة الحوادث في طرقات دول تشهد صراعات ونزاعات مسلحة وحروبا أهلية، ما يعني أنها تمثل خطرا على حياة شريحة كبيرة من المواطنين في بلد يتمتع بدرجة عالية من الاستقرار الأمني.
لقي 12 شخصا مصرعهم وأصيب 30 آخرون الأحد في حادث اصطدام حافلة ركاب بسيارة نقل ثقيل في طريق الزعفرانة – غارب، في شرق البلاد.
وجاء هذا الحادث بعد أيام قليلة من مصرع 14 شخصًا في محافظة الوادي الجديد (غربًا) على الطريق الواصل بين مركزي الداخلة والفرافرة في المحافظة المتاخمة للحدود الليبية جراء اصطدام سيارة أجرة بأخرى مخصصة للنقل السريع.
وقبل ذلك بنحو أسبوع لقي 24 شخصا مصرعهم إثر سقوطهم في نهر النيل بمحافظة الدقهلية في شمال القاهرة، وأعلنت النيابة العامة لاحقاً أنه تم القبض على السائق وثبت تعاطيه المخدرات، ناهيك عن حوادث أخرى أوقعت عددا أقل من الضحايا ولم يُسلط عليها الضوء من قبل وسائل الإعلام، وحصيلتها النهائية ليست هينة.
الأرقام لا تكذب
يتكرر الصدام بين السيارات على الطرقات المختلفة، ويتزايد سقوط السيارات في الترع ومصارف النيل كثيرا في بعض الأقاليم، ويعد الحادث الذي وقع في يوليو الماضي بمحافظة الدقهلية الأكثر لفتًا للأنظار، وراح ضحيته أربعة أطفال وأصيب 26 آخرون، إثر سقوط حافلة تقلهم في ترعة السلام على طريق بين الدقهلية ودمياط شمال القاهرة، وكان يستقلها عشرات الأطفال من حفظة القرآن أثناء عودتهم من رحلة صيفية.
تشير إحصاءات رسمية خاصة بالوفيات الناجمة عن حوادث السيارات على الطرق إلى أن عام 2021 شهد 7101 حالة وفاة بارتفاع 15.2 في المئة مقارنة بعام 2020 الذي شهد 6164 حالة وفاة، بينما لقي 6722 شخصا حتفهم في حوادث الطرقات عام 2019، وفيما يتعلق بالإصابات فإن العام الماضي شهد 51511 إصابة بنسبة انخفاض 9.3 في المئة عن العام السابق له والذي سجل 56789 إصابة.
وتتعدد أسباب وقوع الحوادث في مصر، منها حالة الطرقات المتآكلة، وعدم التزام بعض السائقين بالسرعات المقررة، والقيادة تحت تأثير المواد المخدرة، والطقس المتقلب، وغياب القوانين الرادعة لبعض المخالفات الخطيرة أثناء القيادة.
ويقول خبراء في مجال الطرق إن اهتمام الحكومة المصرية اتجه نحو تدشين شبكة طرقات جديدة وصيانة العديد من الطرقات الرئيسية، غير أن الطرقات الفرعية لا تخضع للتجديد والإصلاح وهي التي يتبع بعضها إدارات محلية بيروقراطية وتبدو بعيدة عن تركيز وزارة النقل والهيئة الهندسية التابعة للجيش، وهما الجهتان اللتان تتوليان الإشراف على الطرق والجسور والكثير من المشروعات المتعلقة بهما.
وأكد أستاذ الطرق والنقل في جامعة عين شمس بالقاهرة حسن مهدي أن تبعية الطرقات في مصر تنقسم إلى فرعين، الأول: الهيئة العامة للطرقات والكباري التابعة لوزارة النقل وقامت بتطوير شبكة الطرقات القومية في السنوات الماضية، والثاني: طرقات فرعية تتبع المحافظات والإدارات المحلية بها وتؤول مهمة تطويرها إلى وزارة التنمية المحلية، لكنها تواجه الكثير من المشكلات التي تجعلها تستمر في حصد الأرواح.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “وزارة النقل تتدخل في بعض الطرقات الفرعية لكن من خلال إنشاء أخرى جديدة لديها القدرة على تخفيف الحمل عن الموجودة بالفعل، غير أن عمليات الصيانة مسؤولية كل من المحافظين ووزارة التنمية المحلية، وتنفيذ الحكومة لمبادرة ‘حياة كريمة’ التي تستهدف تطوير القرى يقوم بهذا الدور في هذا التوقيت لتحسين جودة الخدمات التي يستفيد منها المواطنون”.
وأشار حسن مهدي إلى اقتناعه بأن تطوير الطرقات الفرعية أكثر صعوبة من الرئيسية بسبب المرافق الحكومية التي تمر أسفلها أو على جنباتها، وفي الكثير من الأحيان يتعرض أصحاب الشركات التي تتولى عملية الإصلاح للحبس حال رفع دعاوى قضائية تحملهم مسؤولية تبديد بعض المرافق، كما أن وزارة النقل عليها نقل خبراتها في الطرقات الرئيسية للمحليات بما يحرك عملية تنفيذها وصيانتها.
ذهاب وعودة
تعاني الطرقات الفرعية من مشكلات جمة، لأنها تكون غالبا في اتجاه واحد مزدوج للذهاب والعودة معا، وتنحصر في مساحات ضيقة بين الترع ومصارف نهر النيل في قرى ومدن مختلفة، ولم تقم الحكومات المتعاقبة بتشييد حواجز تمنع سقوط السيارات والحافلات في المياه الجانبية، ودائما ما تشهد تلك الطرقات تدخلات شعبية لوضع حواجز أو مطبات صناعية في غفلة من أعين الأجهزة المحلية.
وأوضح محمد إبراهيم، وهو أحد مواطني قرية الجمالية التابعة لمحافظة الدقهلية وشهدت حادث حفظة القرآن مؤخرا، أن أهالي القرية طالبوا الأجهزة المحلية بإنشاء حواجز خرسانية على ضفاف الترع الرئيسية ولم يتلقوا ردا إيجابيا، وأن البعض منهم مع تكرار سقوط السيارات وفيها مواطنون قاموا بنصب أعمدة إسمنتية، لكن وزارة الري قامت بتحرير محاضر باعتبار أن ذلك إجراء مخالف للقانون ويهدد سلامة الترع.
ولفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن “أهالي القرية وجدوا فرقًا شاسعًا بين حالة الطرقات الواصلة بين مراكز محافظة الدقهلية وبين الطرقات الرئيسية السريعة التي تربط محافظتهم بالعاصمة القاهرة ومحافظات أخرى، فمعظم الطرقات الفرعية بلا إضاءات ليلا، والمئات من أعمدة الكهرباء معطلة، والطرقات متهالكة وبحاجة إلى إعادة رصف.
وأصدر المجلس الأعلى للسلامة التابع لوزارة الداخلية وبه عدد من خبراء هندسة الطرقات توصيات مهمة في عام 2017 لتطوير الطرقات الفرعية تزامنًا مع الطرقات الرئيسية، من بينها ضرورة إنشاء حواجز حماية على المجاري المائية في الطرقات الرئيسية بمنطقة الدلتا في شمال القاهرة، وعلى جانبي النيل في جنوب مصر، ولم يتم تنفيذ التوصيات، وهو ما بررته الحكومة بحاجة المشروع إلى كلفة مالية باهظة.
وذكر رئيس الجمعية المصرية لرعاية ضحايا الطرق وأسرهم (أهلية) سامي مختار أن الإحصاءات قالت إن عدد حوادث الطرقات الفرعية يفوق الرئيسية، لكن قد تكون معدلات الوفيات في الطرقات السريعة (الرئيسية) أكثر، وينبغي للحكومة أن تعيد النظر في التعامل معها وصيانتها من خلال تخصيص ميزانيات مناسبة للجهات المحلية (المحافظات) أو عبر توجيه دفة الاهتمام الكبير لها أسوة بالطرقات السريعة.
وكشف في تصريح لـ”العرب” أن “الجمعية التي يرأسها تعمل على الجوانب التوعوية للمواطنين، التي تجعلهم أكثر حرصًا أثناء سيرهم على الطرقات الفرعية وذات الاتجاهين الملاصقين، لأن إصلاح الطرق وحده لن يحل المشكلة، فهناك عوامل أخرى تتعلق بحالة الحافلات وصيانتها ونظافة الطرق ذاتها.
تتجه دوما أصابع الاتهام في الكثير من حوادث الطرقات إلى سائقي سيارات النقل وسيارات الأجرة، أو الميكروباص كما يطلق عليها في مصر، وتبين أن العامل البشري سبب في ما يقرب من 67 في المئة من إجمالي الحوادث سنويا.
ووفق الأرقام الرسمية أنفقت مصر 474 مليار جنيه (نحو 20 مليار دولار) على مشروعات الطرقات في الفترة بين 2014 و2021، معظمها تم إنفاقه على إنشاء طرق جديدة، ومع ذلك تستمر الحوادث التي تذهب بحياة مواطنين كثيرين. وأشارت الإحصاءات ذاتها إلى أن الإنفاق على الطرقات القديمة لم يتجاوز 15 مليار جنيه، أي ما يقارب 600 مليون دولار فقط.
العامل البشري
أكد وزير النقل المصري الفريق كامل الوزير في مايو من عام 2020 أن مصر قفزت في التصنيف العالمي لجودة الطرقات 90 مركزاً، وانتقلت من المركز 113 إلى المركز رقم 28 عالمياً عام 2019، ما يجعلها تخرج من المنطقة الحمراء لحوادث الطرقات، وقال “الفضل يعود إلى المشروع القومي للطرقات الذي تم إنشاؤه بإجمالي سبعة آلاف كيلومتر طولي”.
وشدد رئيس الجمعية المصرية لسلامة الطرقات والمرور عادل الكاشف على أن شبكة الطرقات بحاجة إلى تعميم تجربة ربطها إلكترونيًا بالكاميرات والرادارات لتتماشى مع الطفرة الإنشائية، وبما يعود بنتائج إيجابية على مستوى انخفاض معدلات الحوادث، مع ضرورة مراجعة قوانين المرور والتشديد على التدريب والاختبارات لحاملي رخص القيادة وإجراء اختبارات طبية سنوية للسائقين.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “مصر تعاني من أن 80 في المئة من حاملي رخص القيادة لا يجيدون القيادة، ويتسبب ذلك في زيادة معدلات الحوادث، بجانب لجوء بعض السائقين إلى المواد المخدرة كي يتمكنوا من السهر والقيادة لأطول فترة ممكنة”، مشيرا إلى ضرورة تطبيق قوانين المرور بحزم على الجميع بلا استثناء.
اهتمام الحكومة اتجه نحو تدشين شبكة طرقات وصيانة الطرقات الرئيسية، غير أن الطرقات الفرعية لا تخضع لذلك
وتفتقر مصر إلى الإدارات التنفيذية القادرة على التحكم في سير أساطيل نقل البضائع، ولم يتم تخصيص مناطق لسيرها على الطرقات الفرعية، مثلما هو الحال في غالبية الطرقات الرئيسية، ما يؤدي إلى زيادة الحوادث، وترك هذا الملف من قبل الحكومات المتعاقبة تسبب في عشوائية نتجت عنها حوادث عديدة في مناطق متفرقة.
وتقوم الحكومة في أحيان كثيرة بصيانة طرقات أكثر من حاجتها الحقيقية للصيانة، وتغفل طرقا أخرى لا تحظى باهتمام إعلامي، وقد تنتظر الإدارات المحلية في بعض الأقاليم تدهور حالة الطرقات بشكل كبير قبل أن تبحث عملية إصلاحها، وخلال تلك الفترة تتعرض الطرقات لحوادث وتتضاعف تكاليف صيانتها.
وذهبت منظمة الصحة العالمية إلى أن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل تشهد 90 في المئة من الوفيات الناجمة عن حوادث الطرقات في العالم، على الرغم من أنها لا تحظى إلا بنحو 45 في المئة من المركبات، وتبلغ كلفة حوادث الطرقات في معظم الدول نحو ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وقالت المنظمة في تقرير لها إن نحو 1.3 مليون شخص يلقون حتفهم سنويا نتيجة حوادث الطرقات في العالم، نصف هؤلاء من المشاة ومستخدمي الدراجات الهوائية والنارية.