الحكومات العسكرية الباكستانية نجحت في ترسيخ نفوذها وكبح القوى المدنية

تشكل التجربة الباكستانية شأنها شأن العديد من التجارب كالتجارب الجزائرية والتركية تجربة مرجعية مثيرة للاهتمام في ما يتعلق بالدور السياسي للعسكريين وبالعلاقات المدنية ـ العسكرية بشكل عام، وهو ما ركزت عليه الباحثة المصرية هدى الحسيني في كتابها “باكستان التحول الديمقراطي والعلاقات المدنية – العسكرية”.
تستحق مسألة العلاقة بين المدنيين والعسكريين في المجال السياسي اهتماما خاصا لاسيما في فترات التحول والانتقال، باعتبار أن تدخل العسكريين في المجال السياسي قد يشكل تحديا كبيرا لإرساء الأنظمة السياسية الديمقراطية. هذه المسألة تشكل الفكرة الرئيسية لكتاب “باكستان التحول الديمقراطي والعلاقات المدنية – العسكرية” للباحثة هدى الحسيني بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، باعتبارها قضية من القضايا الجدلية المثيرة للتحليل والنقاش والتي تقع في بؤرة الموضوعات التي تهتم بها أدبيات النظم السياسية المقارنة وخاصة في ما يتعلق بالدول النامية، وهي القضية الخاصة بالعلاقات المدنية ـ العسكرية.
ورأت الحسيني في كتابها الصادر عن دار العربي أن التجربة الباكستانية تشكل شأنها شأن العديد من التجارب في هذا المجال كالتجارب الجزائرية والتركية تجربة مرجعية مثيرة للاهتمام في ما يتعلق بالدور السياسي للعسكريين وبالعلاقات المدنية ـ العسكرية بشكل عام. فرغم أنّ باكستان قد تأسست كدولة ديمقراطية بعد تقسيم شبه القارة الهندية، إلا أنّ الجيش كان ولا يزال واحدا من أهم المؤسسات القوية في البلاد، والحكومات المتعاقبة حرصت على أن يكون العسكريون جزءا منها، حيث كانت المؤسسة العسكرية في معظم مراحل الحكم في باكستان هي الحاكم المباشر أو من وراء ستار تحت مبرر الحفاظ على مصلحة البلاد العليا.
وقالت إن الجيوش لعبت في مجتمعات العالم الثالث دورا سياسيا واجتماعيا مس في الصميم سلبا أو إيجابا اتجاهات الفعل السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، فما أن نالت معظم بلدان العالم الثالث استقلالها السياسي بغض النظر عن الفارق الزمني بين استقلال كل من مجتمعات أميركا اللاتينية ومجتمعات آسيا وأفريقيا حتى شهدت تلك البلدان موجات من الانقلابات العسكرية، بالإضافة إلى أشكال مختلفة من التدخلات العسكرية بدأت في أميركا اللاتينية منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، وامتدت إلى آسيا وأفريقيا عقب الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) لتشكل بتتابعها ما عرف في ما بعد بـ”الظاهرة العسكرية” ولتسود تلك المجتمعات نزعة عسكرية اتجهت بقوة نحو السيطرة على الحكم بصور مختلفة.
بينما يكون الجيش في الأنظمة الديمقراطية تابعا للحكومة، فإن الحكومات المنتخبة في باكستان تكون تحت تأثير الجيش دائما
وحول العلاقات المدنية – العسكرية وأثرها على التحول الديمقراطي في باكستان، توصلت الحسيني إلى أن الجيش الباكستاني يعد من أهم العناصر المؤثرة في السياسة الباكستانية، وبينما يكون الجيش في الأنظمة الديمقراطية تابعا للحكومة، فإن الحكومات المنتخبة في باكستان تكون دائما تحت تأثير الجيش، خاصة تحت تأثير جهاز الاستخبارات العسكرية (ISI)، وهذا التأثير قد يكون في تشكيل الحكومة، وقد يكون في استمراريتها، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك إشراف الاستخبارات العسكرية الباكستانية على تشكيل (الاتحاد الإسلامي الديمقراطي) المكون من الجماعة الإسلامية بقيادة القاضي حسين أحمد، وحزب “الرابطة الإسلامية” بقيادة نواز شريف، هذا الاتحاد هو الذي تولى تشكيل الحكومة في الانتخابات التي أجريت عام 1990، وكلما حاولت الحكومة المنتخبة أن تخرج عن سيطرة المؤسسة العسكرية، أقيلت واستولى الجيش على الحكم، وهكذا. ويتضح مما سبق، أن للجيش الباكستاني سجلا حافلا بالتدخل في السياسة وهو صاحب النفوذ الأكبر في البلاد التي حكمها العسكر لأكثر من 32 عاما من أصل 60 عاما هي عمر تاريخ باكستان المستقل، بل إنه خلال الفترات التي لم يحكم بها كان يحرك الوضع خلف الستار.
لقد حاولت الأحزاب السياسية المعارضة والحكومات المدنية بصورة مستمرة أن تكون باكستان دولة ديمقراطية، إلا أن تدخل الجيش في السياسة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كان من أهم أسباب ضعف وهشاشة المؤسسات الديمقراطية في البلاد.
وأوضحت الحسيني أن هناك تشابكا واضحا بين العلاقات المدنية – العسكرية في باكستان وتدخل واضح وصريح للحكم العسكري سواء بإدارته لشؤون البلاد في ظل الحكم المدني، أو قيامه بالانقلابات والسيطرة المباشرة على الدولة، لذلك تعد باكستان من أهم النماذج للتحالفات العسكرية المدنية، والتي يتعاون فيها الاثنان مع بقاء السيطرة للجيش على قواعد اللعبة السياسية وهو ما أطلق عليه اصطلاح “المشاركة المدنية العسكرية المستنيرة”، الأمر الذي يشير إلى أن الجيش يعد هو المحرك الأساسي للحكم فيها وكذلك هو من أهم بؤر الأزمات في النظام السياسي الباكستاني لما يوجد له من تداعيات تؤثر على الاستقرار السياسي ومحاولة التحول الديمقراطي.
وعند تقييم العقود الستة التي مضت من عمر باكستان، سرعان ما تبرز عقبة خلافة الساسة والجيش على السلطة كأحد معوقات التقدم على عكس النموذج الهندي على سبيل المثال، حيث مؤسسات سياسية قوية دفعت بالبلاد للوصول إلى قمة هرم القوى الإقليمية في المنطقة، ومنافسة الصين التي تعتبر بالنسبة إلى باكستان صديقا استراتيجيا يمكن أن يوفر لها الحماية وقت الحاجة، ويرى المراقبون أن فساد الساسة وضعف قدراتهم على اتخاذ قرارات حاسمة كان السبب وراء تدخل الجيش في الحكم من فترة إلى أخرى في باكستان، لقد كان أكبر إنجاز حققته باكستان عقب استقلالها هو تأسيس جيش قوي، ومقابل هذا الجيش كان هناك ساسة أضاعوا فرصا كثيرة للتقدم والازدهار رغم موقع باكستان الجغرافي الذي يربط جنوبي آسيا بوسطها ويؤهلها للدور كقوى اقتصادية لا يستهان بها.
وشددت على أن السلطة العسكرية الباكستانية طبعت بصماتها على اختراع أسطورة الخطر الإسلامي في باكستان، وذلك لتحكم من خلال قبضتها على مقاليد السلطة، وفي حقيقة الأمر قد ثبت أن الجيش الباكستاني يتحكم في تسيير الأحزاب الدينية السياسية والمنظمات الإسلامية بهدف تحقيق مصالحه الخاصة داخليا وخارجيا، وبعبارة أخرى، فقد استغل الجيش الباكستاني المنظمات الإسلامية والأحزاب الدينية السياسية خلال فترات معينة لأغراضه الخاصة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وذلك من منطق أن المنظمات الإسلامية توازن قوة الأحزاب السياسية العلمانية المناوئة لأنظمة الحكم العسكرية، فضلا عن أنها قد تحفظ للجيش دوره في كفالة بل وفي بعض الأحيان استغلال الإسلاميين المتطرفين في أفغانستان بتأييد من الولايات المتحدة في أول الأمر، ناهيك عن تلاعب الجيش بقضايا إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند، وعدد من البؤر الملتهبة الأخرى في شبه القارة الباكستانية.
فترة الحكم العسكري بقيادة مشرف عكست مدى تدهور العلاقات المدنية ـ العسكرية وهو الأمر الذي لم يختلف خلال الحكم المدني
ورأت الحسيني أنه لا يمكن فهم أزمة الدولة الباكستانية بمعزل عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الجيش والقوى الإسلامية، وتعود تلك العلاقة إلى مرحلة تأسيس الدولة ذاتها، وقد ظلت هذه العلاقة قائمة بعد تأسيس الدولة كجزء من علاقات المصلحة التي نشأت بين النظم الحاكمة لاسيما العسكرية والقوى الإسلامية، وامتدادا في الوقت ذاته لطبيعة الدولة الباكستانية التي تأسست على أساس الدين، إذ ظل الخطاب الإسلامي هو إحدى الأدوات الأساسية التي اعتمد عليها النظام لتثبيت شرعيته، ولتمييز هوية الدولة الباكستانية عن خصمها التاريخي الهند. فقد أدت هذه العلاقة التاريخية إلى إسناد القوى الإسلامية بالإضافة إلى الإطار الدستوري والقانوني الذي يسمح بالعمل السياسي الرسمي على أساس الدين، إلى ما يمكن أن نطلق عليه “الحق التاريخي” للقوى الإسلامية، استنادا إلى الدور الذي لعبته هذه الجماعات في تحديد وتأكيد الهوية الإسلامية للدولة الباكستانية، بدءا من ممارسة الضغوط على الجمعية الوطنية المسؤولة عن صياغة الدستور الجديد بعد الاستقلال في ظل ضعف الأحزاب السياسية العلمانية خلال تلك المرحلة من حياة الدولة الباكستانية الجديدة، ومرورا بالدور المهم لهذه القوى في دعم تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، أو في الحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة، وفي جميع الحالات اضطلعت القوى الإسلامية بدور مشارك للدولة، وللجيش، وللنظام الحاكم في تنفيذ وظيفة “الجهاد” على المستويين الداخلي والخارجي، على نحو جعل من القوى الإسلامية الحليف الطبيعي للجيش وللدولة في معظم تاريخ باكستان.
وبحسب الحسيني، تعد باكستان من نماذج الدول التي تتصاعد فيها إشكاليات العلاقات المدنية – العسكرية سواء في فترات الحكم المدني أو الحكم العسكري، وبتطبيق ذلك على الفترة من عام 1999 وحتى عام 2013 محل الدراسة تحديدا، يلاحظ أن فترة الحكم العسكري بقيادة برويز مشرف عكست مدى تدهور العلاقات المدنية ـ العسكرية، وهو الأمر الذي لم يختلف كثيرا عن فترة الحكم المدني بقيادة آصف علي زرداري والتي تصاعدت فيها أيضا حدة تلك الإشكاليات، الأمر الذي يؤكد على حقيقة مفادها أن جوهر تلك الإشكاليات يتمثل في الصراع بين المدنيين والعسكريين في إدارة مقاليد السلطة والهيمنة والسيطرة على الحياة السياسية، ففي حين يرى المدنيون ضرورة إبعاد الجيش عن الحياة السياسية لدفع عملية التحول الديمقراطي بالبلاد، يتوافر لدى المؤسسة العسكرية إدراك محدد مفاده أنها المؤسسة الوحيدة التي تحول دون انزلاق البلاد إلى الفوضى والاضطراب، الأمر الذي لا تستطيع أن تحققه السلطة المدنية لوحدها التي تتسم بالضعف والهشاشة.
وترى الحسيني أن مستقبل الديمقراطية في باكستان مرهون بالعلاقة بين كافة القوى السياسية وقدرة هذه القوى على إدارة الصراع والنهوض بعملية التحول الديمقراطي، والعمل على دفع الاقتصاد الباكستاني إلى الأمام، بالإضافة إلى علاقات باكستان الخارجية، وخاصة الولايات المتحدة والهند، فالقوى السياسية داخل باكستان تتضمن بدورها الأحزاب السياسية المدنية والدينية، ثم الجيش كعنصر يمتلك القوى النهائية لأي نظام سياسي، أما علاقة باكستان بالدول الخارجية وخاصة حلفاء باكستان في الحرب على الإرهاب فيحكمها عامل رئيسي هو قدرة باكستان على احتواء العنف والتطرف ومدى مساهمتها في الحرب على الإرهاب مستقبلا، ثم تأتي إدارة مشكلة إقليم كشمير كإحدى المشاكل المزمنة في علاقات الهند وباكستان، حيث تسببت في ثلاث حروب بينهما طيلة العقود الماضية.