الحق في الأنوثة
يُخيّل إليّ أحيانا أنّ هناك تواطؤا بين الأصوليات الدينية وبعض الناشطات النسائيات لغاية وأد الجسد الأنثوي، إن بدعوى أنّه جسدٌ مشيطنٌ ومثيرٌ لشهوة الرجل كما ترى الأصوليات الدينية، أو بدعوى الحاجة إلى تحقيق المماثلة التامة بين المرأة والرجل كما تقول بعض الناشطات النسائيات.
في كل الأحوال فإن المساواة -بما أن الأمر يتعلق بالقياس- لا تعني المماثلة والمطابقة. غير أن الذوق الاجتماعي العام لشعوبنا ومجتمعاتنا يتجه نحو استبعاد كل معالم الأنوثة عن الفضاء العمومي، مع الإبقاء على هامش في الصورة الإعلامية من باب التفريغ الكاذب. أمّا في الواقع المعيش، فتكاد تختفي كل مظاهر الأنوثة من الفضاء العمومي، أو أنّها في طريق الاندثار: التنورة، الكعب العالي، الضفائر الجانبية، تسريحات ذيل الحصان، تسريحات ذيل السمكة، الجوارب اللحمية، إتيكيت المشي، فساتين الورود، إلخ. كلّ هذه الأكسسوارات الأنثوية الراقية اختفت على حين غرّة من مشهد الفضاء العمومي لمجتمعاتنا. فما الذي سيحلّ مكانها؟
لا شكّ أن للمسألة علاقة بتراجع الشعور بالأمن والأمان، ولا سيما بالنسبة إلى المرأة (التحرش، العنف اللفظي، الاغتصاب إلخ). في كل الأحوال ليس يخفى أن أول الأشياء التي تنهار حين ينهار الأمن مظاهر الأنوثة. وإذا كانت الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب، كما يقال، فإن أصدق القول وأدقّه أن نقول إن الأنوثة هي الضحية الأولى للحروب. ويبقي أن نضيف من باب التوضيح، في معادلة الأمن، فإن الأهم من الأمن هو الشعور بالأمن. هذا الشعور قد يختفي أحيانا رغم تضخم أجهزة الأمن والضبط والمراقبة، لا سيما حين يتعلق الأمر بأجهزة لا تعتبر نفسها معنية بحماية الأجساد الناعمة. علما وأن الجسد الناعم هو الجسد الأكثر حساسية من مسألة افتقاد الأمن. هنا يمثل إخفاء مظاهر الأناقة والرشاقة نوعا من التدبير الاحتياطي لأجل حماية الجسد الناعم وسط محيط الهمجية والتوحش.
إن التحرش اللفظي أو الجسدي ما هو إلا عنف همجي يقع على الجسد الأنثوي بالأساس، وحين يغيب القانون أو يضعف عن حماية الأجساد الناعمة، فمعناه أن الأنوثة أصبحت متروكة بلا حماية. لذلك ليس مستغربا أن تكثر مظاهر الحجاب داخل العواصم التي تكثر فيها مظاهر التحرّش، والعكس صحيح. غير أنّ اختفاء مظاهر الأنوثة سرعان ما يعود ليصبح عاملا من عوامل تهييج غرائز العنف لدى الرجل.
إن معاينة بسيطة لسلوك جماعات الذكور -بصرف النظر عن الأعمار- تبين الفرق الكبير بين مستوى التأدب والتهذب في حالة الاختلاط الدائم بالإناث، وحالة الفصل التام بين الجنسين. لذلك بوسعنا القول في منتهى القول، حين يتقلص منسوب الأمن يتقلص منسوب الأنوثة أيضا فتتراجع مظاهر اللطافة في المجال العام، وبالمثل، حين يتقلص منسوب الأنوثة يتقلص منسوب الأمن أيضا فتتزايد مظاهر الجلافة في المجال العام. فالمعادلة ذات وجهين.