الحرب على غزة تدشن عصرا جديدا من الحروب الأبدية

اكتسبت التحركات الدبلوماسية الرامية لوقف إطلاق النار في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني قوة تدفع نحو التهدئة. وفيما يتوقع المتابعون التوصل قريبا إلى هدنة لإخماد فتيل النزاع إلا أن هذه الهدنة ستكون بمثابة استراحة مؤقتة، حيث ستكون إسرائيل وحماس مذعنتين لموجات متكررة من العنف انطلاقا من ضراوة الحرب عن بعد المشتدة بينهما، إذ أن التكنولوجيا الجديدة تدفع إلى مواجهة غير تقليدية بين الأعداء دون أي احتمال لانتهائها.
لندن - في العطلة الأسبوعية الأخيرة حشدت إسرائيل قوات ودبابات على حدودها مع قطاع غزة. ومع تردد هدير محركاتها في مختلف أنحاء القطاع بدا أن متحدثا عسكريا إسرائيليا يؤكد لوسائل الإعلام الدولية أن عملية عسكرية برية في الطريق.
لكن لم يكن هذا هو الحال. فقد أرادت إسرائيل أن تعتقد حركة حماس أن غزوا بريا في الطريق حتى يسرع مقاتلوها إلى مواقعهم القتالية في الأنفاق، بحيث يمكن أن تستهدفهم الطائرات المسيرة والطائرات الحربية الإسرائيلية. إذ تفضل إسرائيل أن تشن حربها عن بُعد بسبب ما أصيبت به من خسائر بشرية في عمليات غزو سابقة لغزة منذ سيطرة حماس على القطاع في 2007.
ومنحت التكنولوجيا معنى جديدا للحروب اليوم، ولم يعد الصراع الدائر حاليا في الأراضي الفلسطينية بشكله التقليدي، بل بمفهوم آخر مختلف يستفيد من التطور الرقمي.
على سبيل المثال: تقوم إسرائيل بتدمير بنيات بقنابل فراغية في حرب تدار من مراكز رقمية وطائرات تحلق على ارتفاعات شاهقة ولا ترى بالعين، مع ذلك تضرب أهدافها بدقة.
وبذلك تضع التكنولوجيا الجديدة الخصوم في مواجهة مستمرة ومتكررة، ولن تكون محاولات التهدئة إلا مؤقتة وستكون النتائج معلقة، وسيتجدد النزاع في مرات أخرى.
وبينما تستعد القوات الأميركية للانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاما تطرح حرب إسرائيل “الأبدية” في غزة تصورا عما يمكن أن تكون عليه حملة عسكرية طويلة بقوات غير برية.

التكنولوجيا الجديدة تدعم استمرار العنف، بما في ذلك الطائرات المسيرة "المتسكعة" الإسرائيلية التي تحلق فوق ساحة المعركة بحثا عن أهداف
وفي أفضل الأحوال يقول أنصار إسرائيل إن حملتها تعد من أدق الحملات في التاريخ الحديث، إذ أن عدد القتلى البالغ نحو 200 قتيل أغلبهم من الفلسطينيين منخفض بشكل لافت للنظر في ضوء حجم قوة النيران المستخدمة.
غير أن الحملة تطرح في أسوأ الأحوال نظرة مزعجة على مستقبل عدميّ توجه فيه الدول القوية ضرباتها لأعدائها عن بعد دون أدنى اعتبار للوضع على الأرض. وربما كان الأكثر مدعاة للقلق أنها تشير إلى عصر من الصراع اللانهائي يتميز بموجات دورية من العنف دون أي احتمال لانتهائه.
وسحبت إسرائيل قواتها ومستوطناتها من غزة في 2005 قبل أن تحاصر القطاع بعد عامين وذلك بعد أن انتزعت حركة حماس السيطرة عليه من خصومها في السلطة الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين تحاصر إسرائيل غزة فعليا وتخنق اقتصادها كما شنت حروبا في 2008-2009 وفي 2012 وفي 2014 على المتشددين الذين يطلقون الصواريخ عليها.
وفي حين أن عدد القتلى حاليا أقل منه في حروب غزة السابقة، فإن ضراوة الحرب عن بعد من الجانبين شديدة. وقد أطلقت حماس بنجاح صواريخ طويلة المدى على وسط إسرائيل وذلك على نطاق غير مسبوق رغم أن دفاعات “القبة الحديدية” الإسرائيلية اعترضت معظمها.
ورغم أن حملات إسرائيل العسكرية واسعة النطاق في غزة سابقا تضمنت عنصرا بريا فقد تحققت تلك الحملات بثمن باهظ سواء من حيث الخسائر في الأرواح أو من حيث سمعة إسرائيل. أما هذه المرة فيبدو أن إسرائيل تعتقد أن بوسعها تحقيق كل ما تريده عن طريق الجو، وذلك رغم أنه لا يوجد تقريبا من يعتقد أن هذه ستكون آخر تلك الحملات.
بدلا من ذلك يبدو أن إسرائيل وحماس مذعنتان لموجات متكررة من العنف تبني فيها حماس قدرتها على ضرب إسرائيل وتدك فيها إسرائيل حماس من حين إلى آخر في غزة لتقليص قدراتها، أو ربما كان الوصف الأدق هو أنهما ملتزمتان بذلك.
وهذا نهج تدعمه التكنولوجيا الجديدة بما في ذلك الطائرات المسيرة الانتحارية “المتسكعة” الإسرائيلية التي تحلق فوق ساحة المعركة بحثا عن أهداف وهو نهج له مزايا سياسية. وربما تستخدم الولايات المتحدة هذا النهج في استهداف أفغانستان وخاصة إذا ما مُنيت الحكومة الأفغانية بالمزيد من الخسائر على الأرض أو على أسوأ الافتراضات خسرت البلاد كلها لصالح حركة طالبان.

وحتى الآن لا تزال الولايات المتحدة في أفغانستان، مثل فرنسا في معاركها في مواجهة التطرف الإسلامي في غرب أفريقيا، تركز إلى حد كبير على العمل مع القوى المحلية واستخدام مستشارين لصد جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية. غير أن تصور تحولها إلى نهج أكثر شبها ما يجري في غزة أبعد ما يكون عن المستحيل وذلك باحتواء الأعداء في منطقة ثم توجيه ضربات لهم بلا رحمة في حملات عسكرية متواصلة أو متقطعة.
وفي حين أن دقة الهجمات الإسرائيلية تحسنت في ما يبدو وأن مباني كثيرة لم تقصف إلا بعد صدور تحذيرات مثلما حدث في حالة المبنى الذي يضم مكتب وكالة أسوشييتد برس في غزة، فإن العواقب على سكان غزة لا تزال وخيمة.
ورغم تنامي الآمال في وقف إطلاق النار تحت الضغط الدولي فإن ذلك لن يؤدي إلى تحسين الوضع لسكان غزة. فقد دمر الحصار المستمر منذ 14 عاما اقتصاد القطاع ومن المفارقات أنه رسخ في الوقت نفسه أقدام حماس في السلطة.
ومع كل المخاطر الفعلية في كلا الجانبين، ومنها ما تتعرض له قيادة حماس جراء الضربات الإسرائيلية، فإن هذا النهج يخدم بصفة عامة القيادات العليا في الجانبين. فالظهور بمظهر قوي في ما يتعلق بالدفاع واحدة من الأوراق القليلة الباقية لدى حكومة نتنياهو في حين أن أفعال إسرائيل ترسخ الدعم لحركة حماس في غزة في مواجهة منافسيها في السلطة الفلسطينية.
ولم يكن للضغط الدولي لتسوية هذه المواجهة بشكل أعم أي فعالية على الإطلاق تقريبا، ويبدو أن إسرائيل تعتقد أن بإمكانها أن تتصرف ببلادة على نحو متزايد إزاء الرأي الخارجي.
وخلال الأسبوع الجاري ستسكت المدافع على الأرجح. لكنها ستكون استراحة مؤقتة وفي غضون أشهر أو سنوات على الأرجح ستحدث مواجهة مماثلة من جديد. وإذا كان ذلك هو نمط حروب أخرى في العالم في السنوات القادمة فسيكون اتجاها مأسويا.