الحرب بين الأزواد وحكومة مالي معبر للمزيد من هيمنة القاعدة

يشيع تجدد القتال بين الحكومة المالية والحركة الأزوادية مناخ الفوضى الذي تحبذه الجماعات الجهادية للتوسع. ولا يستبعد مراقبون تحالف مصلحة بين الأزواد والجهاديين في مواجهة باماكو الهشة أمنيا والمعزولة إقليميا ودوليا.
القاهرة - يصب تجدد الاشتباكات بين مقاتلي تنسيقية الحركات الأزوادية (سيما) من جانب وحكومة مالي ومجموعة فاغنر الروسية المسلحة الخاصة من جانب آخر، في مصلحة الجماعات المتطرفة خاصة الموالية لتنظيم القاعدة، والتي بدأت تزحف حاليًا نحو ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الفرنسي، والذي سوف يتضاعف عقب انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي (مينوسما) قبل نهاية العام الجاري.
ويحتدم التنافس بين الجماعات الانفصالية التي تتشكل من الطوارق وحكومة مالي لأجل السيطرة على إقليم أزواد، ويخطط تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين الموالي للقاعدة لاستثمار تجدد المعارك وعدم استبعاد انهيار اتفاق الجزائر للسلام، للهيمنة على المزيد من المناطق في غرب أفريقيا.
وارتفع سقف طموحات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بعد الانسحاب الفرنسي من مالي، ومع انقلاب النيجر وخروج القوات الفرنسية قبل نهاية العام الجاري، بدأت الطموحات تصل إلى مستوى تأسيس جيش وليس مجرد حركات مسلحة، والسيطرة على مساحات أكبر في مالي، وتثبيت الانتشار في مناطق مهمة بشمال البلاد، في رهان بالغ للحصول على مساعدة مسلحي الحركات الأزوادية في مسعاهم لتقرير مصيرهم.
إذا لم تجد الحركة الأزوادية من يحتوي تطلعاتها من قبل الدولة فسوف يلجأ بعضها إلى التعاون مع القاعدة
واستأنفت الجماعات الانفصالية عملياتها المسلحة في شمال مالي، وفي ذهن قبائل الطوارق التي تقود هذه الجماعات الحصول على حكم ذاتي وربما الانفصال في المستقبل، وتمت مهاجمة مواقع تابعة للجيش ومجموعة فاغنر وتكبدتا خسائر فادحة، وغنمت الحركات المسلحة سيارات عسكرية وأسلحة وانسحبت تجنبًا لاستهدافها من سلاح الجو المالي.
ولا تزال تقوم باستهداف مواقع عسكرية لإرهاق حكومة باماكو التي زاد انزعاجها مع تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالقيام بعمليات مسلحة لإسقاط الانقلابيين في النيجر الذين تحالفوا مع النظام العسكري الحاكم في مالي المجاورة.
وتشير التطورات المسلحة في شمال مالي إلى طي صفحة اتفاق الجزائر للسلام بين الحركات المسلحة وحكومة باماكو عام 2015، حيث تعمل الجماعات الانفصالية على استنزاف قدرات الحكومة، والزحف نحو السيطرة على بعض المدن الرئيسية بعد تحقيق بعض الانتصارات الميدانية والتحكم في مفاتيح عدد من الممرات المهمة ومهابط الطائرات.
وتنضوي عدة حركات انفصالية عرقية داخل ما يُعرف بتنسيقية الحركات الأزوادية التي تنظر إلى شمال مالي على أنه موطن العرب والطوارق، مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية الأزوادية، والمجلس الإسلامي الأعلى.
مواصلة الجيش في مالي ومجموعة فاغنر التقدم نحو العمق الأزوادي تؤدي إلى تعقيد الصراع وتقليص فرص السلام
وينظر الكثير من المتابعين إلى التطورات الأخيرة على أنها تصب في مصلحة تنظيم القاعدة، فهو المستفيد الأول منها، ويسعى إلى توظيف طموحات الحركات الأزوادية الانفصالية المعروفة والتداخل معها في سياق تحالفات ترمي إلى توسيع الهيمنة وإعادة تنظيم الصفوف في إقليم الأزواد الشمالي.
وسارع تنظيم القاعدة ممثلًا في فرعه في مالي (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) إلى شن هجمات نوعية ضد الجيش ومجموعة فاغنر بالتزامن مع تصاعد الاشتباك بين الأزواد والقوات الحكومية، وتبنّى عملية مسلحة كبرى أودت بحياة مئة شخص أخيرا عقب محاصرة مدينة تمبكتو.
ويخطط فرع القاعدة في مالي لاستغلال الحالة الأزوادية الانفصالية والاستفادة من تبعات الانقلابات العسكرية في كل من النيجر والغابون وقبلهما غينيا كوناكري وبوركينا فاسو، وقرب انسحاب قوات حفظ السلام الدولية، لجعل قدرة السلطات في مالي للاحتفاظ بأزواد مكلفة تمهيد الإنهاء سيطرتها عندما تجد باماكو نفسها محاطة بمشاكل معقدة من جهات متعددة.
ومع انسحاب البعثة الأممية من مالي سوف تختفي آلاف الوظائف التي كانت توفرها، بالتالي مضاعفة فرصة الجماعة المتشددة التي تروج لنفسها كحامية للسكان لتجنيد العديد من الفقراء والعاطلين عن العمل.
ويُعول فرع القاعدة في مالي على حاجة الحركات الأزوادية إليه في مواجهة خطر داعش (ولاية الساحل)، حيث تكرر استهدافه لتمركزات حركة تحرير أزواد في سياق مشروعه الخاص بإعادة بناء قدراته العملياتية.
كما فرض تصدي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة لمحاولات داعش في التمدد وتوسيع النفوذ تعاونًا ميدانيًا مع عناصر حركة تحرير أزواد وجمعتهما مصلحة مشتركة، خاصة أن داعش يستهدفهما باعتبارهما عائقا رئيسيا أمام تنفيذ مخطط لزيادة مساحات سيطرته.

وتدرج التعاون بين القاعدة والحركات الأزوادية من احترام توجهاتها العلمانية وعدم الضغط عليها لاعتناق الأصولية إلى التنسيق بعد حفاظ كليهما على خصوصيته السياسية، في ظل إدراك التنظيم أن قدراته العسكرية والمالية لا تمكنه من الانفراد بالهيمنة وإقامة إمارة إسلامية كاملة.
ووصل الأمر اليوم إلى الميل نحو فرضية اعتبار التحالف مع الأزواد مجرد مرحلة إلى حين طرد القوات الحكومية وقوات فاغنر من المناطق المستهدفة.
ويتخوف كثيرون في غرب أفريقيا من أن يعتبر قادة القاعدة تحالفهم مع الحركات العرقية المحلية مرحليًا لكسر شوكة الحكومة في مالي يثم ينقلبون على الأزواديين بعد مكاسبهم الكبيرة التي حققوها في العامين الماضيين.
ومع تزايد قوة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة وتمتعها بالقدرة على جذب الرأي العام إليها بتجنبها التعرض لحياة الناس، من المرجح أن يطفو على السطح وجهها العدائي للحركات الأزوادية، وربما تحصل مواجهات معها عند حسم الصراع مع الجيش وفاغنر.
ولا تتعامل السلطات العسكرية في مالي بحكمة مع الحركات العرقية لإدارة الخلافات وتحقيق الحد المُرضي من المطالب، وفي أحيان كثيرة تصرفت حيالها (خاصة الطوارق والفولان) كمجموعات إرهابية، وهناك عناصر من النخبة الحاكمة رافضة لتوسيع الحكم الذاتي لإقليم الأزواد.
فرع القاعدة في مالي يخطط لاستغلال الحالة الأزوادية الانفصالية والاستفادة من تبعات الانقلابات العسكرية في كل من النيجر والغابون وقبلهما غينيا كوناكري وبوركينا فاسو
وبرزت اتجاهات لدى الحركات العرقية تؤكد أنها ليست في خندق الجهاديين وطغى خطاب توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات لمواجهة تهديدات المتطرفين، والضغط بالأساليب المشروعة والدعم الدولي على المجلس العسكري الحاكم لنيل الحكم الذاتي وتنفيذ بنود اتفاق السلام.
ويبرر المجلس العسكري الحاكم في باماكو عدم التزامه باتفاق الجزائر بأن أولويته الآن هي محاربة التنظيمات الإرهابية المنتشرة في شمال البلاد.
ونص اتفاق الجزائر عام 2015 على عدة نقاط رئيسية، أبرزها احترام التنوع الإثني في مالي، والعمل على استعادة السلام من خلال منح الحكم الذاتي لإقليم الأزواد، وإدماج المجموعات المسلحة في الجيش المالي.
وقد يدفع عدم التزام باماكو بتطبيق بنود اتفاق الجزائر إلى مواصلة فرع القاعدة في مالي دور الحامي للحركات العرقية في مواجهة داعش من جهة، والقوات الحكومية ومجموعة فاغنر من جهة ثانية.
وتسهم إعادة السلطات العسكرية النظر في أسلوب تعاطيها مع الحركات العرقية في إقليم الأزواد بتخصيص الموارد للدفاع عنها ووضعها على طريق تحقيق مطالبها الخاصة بالحكم الذاتي، في تشكيل تحالف مضاد لمحاربة الجماعات الإرهابية في الساحل الأفريقي.
وإذا غيّرت السلطات العسكرية نهجها وتعاملت مع قضية الأزواد باعتبارها حركات ذات أبعاد سياسية لها الحق في الحكم الذاتي، يمكن صياغة تفاهمات تمنح الجماعات العرقية بعض مهام الدولة، ما يقوض فرص فرع القاعدة في مالي ودول الساحل في التمدد.
وتؤدي مواصلة الجيش في مالي ومجموعة فاغنر التقدم نحو العمق الأزوادي إلى تعقيد الصراع وتقليص فرص السلام، ما يمنح تنظيم القاعدة الأجواء المواتية لتكريس تحالفه مع الحركات الأزوادية التي إذا لم تجد من يحتوي تطلعاتها من قبل الدولة سوف يلجأ بعضها إلى التعاون مع القاعدة.

واستفاد تنظيم القاعدة من أخطاء فرنسا في التعامل مع الحالة العرقية الانفصالية وتشابكها مع التمرد الجهادي، حيث تضاعف حضوره ونفوذه في مالي وبوركينا فوسو والنيجر، ويمكن أن يزداد مداه في عدد آخر من دول غرب أفريقيا التي تعيش تعقيدات الحالة الراهنة في مالي.
ومنحت تصفية القوات الفرنسية للجزائري عبدالملك دروكدال المُكنى بـ”أبومصعب عبدالودود” في يونيو 2020 زعيم القاعدة في المغرب الإسلامي الفرصة للطوارقي إياد غالي والفولاني أحمدو كوفا ويحيى أبوالهمام ممثلًا عن المكون العربي، لقطع أشواط مهمة في تحقيق مشروع الحكم الذاتي الذي يعتمد على التشابك وتلاقي المصالح بين الحركات الإثنية الانفصالية وجهاديي القاعدة.
وحررت عملية الاستهداف الفرنسية للقيادي الجزائري دروكدال وغيره من القادة الميدانيين تنظيم القاعدة في دول الساحل الأفريقي من الخضوع لأطراف خارجية، وباتت مقاليد التنظيم بيد قادة إقليميين من أصحاب المكانة داخل عرقياتهم، ولم تعد مُسَيرة فقط من قبل العرب الأجانب.
وتزداد الروابط بين الحركات الانفصالية والقاعدة متانة على ضوء ما يتمتع به قادة التنظيم من نفوذ عرقي، مثل الطوارق والفولان وعرب الساحل.
ويتأسس التحالف بين القاعدة وحركة تحرير أزواد الانفصالية على طموحاتهما في الاستقلال عن الحكومة المركزية بحكم ذاتي في شمال ووسط مالي، وفيما كانت مساعي الأزواديين مدعومة بإسناد دولي واتفاق سلام هش لم تُطبق معظم بنوده، ظلت لتنظيم القاعدة أهداف مزدوجة ولم تغب ملامح مشروعه الخاص لتأسيس إمارة في الساحل والصحراء.
وللجمع بين التوجهين، المحلي العرقي والقاعدي الجهادي، صاغ قادة القاعدة في مالي تصورًا أقل تشددًا يركز على كسب ود وموالاة السكان المحليين والمكونات الإثنية والتأكيد على تبنيهم للمظالم ودعمهم لمطالب الحكم الذاتي للحركات العرقية.
وتطلّب ذلك تخفيف عناصر القاعدة نبرة الرغبة في الانفراد بالسيطرة على المشهدين السياسي والعسكري والميل نحو الشراكة مع المكونات المحلية.