الحاكم والمحكوم بأمر الدولار

وصفوها بالمرأة الحديدية والبعض قال إنها السلطة التي تأخذ منها الدولة العراقية قراراتها. وأكد آخرون أنها الوجه الآخر للحاكم المدني بول بريمر الذي حكم العراق بعد عام 2003، ولكن بنسخته الأنثوية.
قيل عنها الكثير حتى بات المواطن العراقي يشاهدها على شاشات التلفزيون أكثر من ساسته وأصحاب السلطة في حكومته.
لم تترك منفذاً أو مجالاً من مجالات السياسة والاقتصاد وحتى الرياضة إلّا وغاصت في أعماقه “الخالة” أو “العمّة”، كما يُحبُ أن يطلق عليها العراقيون.
كانت حاضرة في توقيع العراق مُذكرة التفاهم مع شركة جنرال إلكتريك لتطوير قطاع الكهرباء إلى جانب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. هي السفيرة الأميركية فوق العادة ألينا رومانوسكي، ممثلة قرارات الإدارة الأميركية وإرادة جو بايدن في تعامله مع العراق، وصاحبة القرار النافذ وعرّابة السلطة في بغداد. حتى شُبّهت بـ”مس بيل” العراق الجديد، تيمناً بالباحثة وعالمة الآثار التي جالت أرضه في العشرينات من القرن الماضي وعملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، عندما لعبت دوراً بالغ الأهمية في ترتيب أوضاع البلد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، بما كانت تمتلكه من علاقات واسعة وخبرات في هندسة مستقبل العراق وواقعه السياسي، ولقبها العراقيون في ذلك الوقت بـ”الخاتون”، بينما اعتبرها البعض جاسوسة بريطانية.
◙ يُمكن توصيف المشهد الحالي في العراق بأنه استرسال أو حتى استسلام ومُناغاة للواقع السياسي الحالي الذي تقوده رومانوسكي
يُحفظ لرومانوسكي 47 زيارة في سجل الزيارات لحكومة السوداني، من ضمنها وأهمها عشر زيارات إلى رئيس الحكومة، وثلاث إلى رئيس الجمهورية، وأربع إلى رئيس البرلمان والخارجية، وزيارتان إلى كل من وزير الدفاع والأمن الوطني والثقافة والنفط والتخطيط والبنك المركزي، فيما كانت حصة وزارة البيئة ثلاث زيارات والمالية زيارة واحدة.
جميع المسؤولين في الدولة العراقية التقت بهم السفيرة الأميركية رومانوسكي، ماعدا وزيري التعليم والعمل، وذلك لارتباطهما بفصائل مسلحة تفرض عليها واشنطن عقوبات، وكذلك الوقفين السني والشيعي.
العراق بلد السيادة المنهوب والوطن الضائع المسروق، الذي أجاز وسمح للسفارة الأميركية ومن يمثلها تشريع القوانين، ووضعها على طاولة مجلس النواب للمداولة بعيداً عن أُطر التمثيل أو العمل الدبلوماسي المُعتادة في العلاقات بين الدول.
حاولت بعض الأصوات المُنفردة في البرلمان انتقاد تدخلها في الشأن الداخلي للبلد، لكن أصواتهم كانت كالصدى الذي يرتد إلى صاحبه، أو صُراخ كأنه زوبعة في فنجان، حيث لا مُجيب لهم.
وصل الاستغراب أقصى مراحله عندما فوجئ أهالي مدينة الموصل بزيارة رومانوسكي إلى مدينتهم لغرض بحث موضوع إعادة إعمار المدينة، ومراقبة العمل، والتأكيد على فتح قنصلية أميركية في الموصل.
◙ يُحفظ لرومانوسكي 47 زيارة في سجل الزيارات لحكومة السوداني، من ضمنها وأهمها عشر زيارات إلى رئيس الحكومة، وثلاث إلى رئيس الجمهورية
يُمكن توصيف المشهد الحالي في العراق بأنه استرسال أو حتى استسلام ومُناغاة للواقع السياسي الحالي الذي تقوده رومانوسكي، وهو ما يُخيّم على حكومة السوداني الذي يُبرر سلوكه بالبراغماتية السياسية التي تُجاري المواقف الراهنة الآنية. لكن الطرف الآخر يراها رهن تنازلات ورضوخ لإرادة أميركية تفرض شروطاً قاسية على حكومة الإطار التنسيقي المقربة من طهران، للدفع بها خارج المحور الإيراني، والضغط عليها للتوقيع على تعهدات وتنازلات أكبر وأوسع.
فهل السفيرة الأميركية هي التي تقود السياسة الداخلية وحتى الخارجية للعراق؟
سؤال لا يجد أي مواطن بسيط صعوبة في الإجابة عليه، عندما يُشاهد في أخبار الفضائيات رومانوسكي وهي تُقابل وتستقبل وتودع وحتى تأمر وتتخذ قرارات تحت قبّة البرلمان، لتؤكد أنها الحاكم المدني الجديد بالنسخة المحسّنة الذي لا زال صاحب القرار، وأن العراق ما زال تحت ظل حكومة بول بريمر، وأن كل الذي يُقال عن السيادة ويجري الحديث عنه ما هو إلا هُراء السلطة التي تُريد إقناع السُذّج بأنها صاحبة القرار. في حين أن العكس صحيح؛ الحاكم هو الأميركي الذي يحكم بأمر الدولار، والمحكوم يجب عليه أن يطيع بكل خضوع واستسلام. وتلك حكاية من حكايات العراق الجريح.