الجملي ومن بعده الفخفاخ.. "بروفا" النهضة لمؤتمرها المقبل

سيُحسم الأربعاء جدل حكومة إلياس الفخفاخ في تونس بعرضها أمام البرلمان لنيل الثقة بعد أشهر من المفاوضات. جدل مترامي الأطراف تحوّل من التركيز على الحكومة إلى التساؤل عن هوية المنتصر وعن اسم المنهزم خاصة بعد حسم المعركة مؤخرا بين الرئيس قيس سعيّد ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، دون المضي في تحليل المسألة من جانب آخر يتعلّق أساسا بكيفية جعل حركة النهضة لمفاوضات حكومتي الحبيب الجملي ومن بعده إلياس الفخفاخ أشبه بمختبر وبروفا مصغّرة للمؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة.
تونس – تبدو مسألة حصول الحكومة التونسية الجديدة، برئاسة إلياس الفخفاخ، على ثقة البرلمان من تحصيل حاصل، بعدما تراكمت كل الأسباب السياسية التي تخول لها ذلك، ليتحوّل الحديث في الساعات التي تسبق عرضها على البرلمان من التجادل حول مرورها أو سقوطها، ما يفتح الباب إلى إمكانية حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، إلى الحديث عن المعركة القادمة بين الرئيس قيس سعيد ورئيس البرلمان رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي.
كما فتحت حكومة الفخفاخ أمام كل المنابر حيزا للنقاش بشأن كيفية تطويع الحركة لثلاثة أشهر من مفاوضات حكومتي الحبيب الجملي ومن بعده إلياس الفخفاخ إلى “بروفا” مصغّرة للمؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة انتصر فيها الغنوشي على خصومه من الصقور.
بالتأكيد، سيحصر النقاش عقب جلسة منح الثقة لحكومة الفخفاخ إن مرت أو لم تمر، حول هوية المنتصر والمنهزم، وهي أسئلة طُرحت قبل تمكن الفخفاخ من تشكيل حكومته وما زالت تطرح أيضا بحصر المعركة القادمة بين الغنوشي وسعيّد.
حين تمسّك الفخفاخ بتقديم حكومة تخلو من قيادات حزب قلب تونس الذي يتزعّمه رجل الأعمال نبيل القروي، بما يتعارض مع رغبة النهضة، صبّت جل التحليلات في خانة أن الرئيس قيس سعيّد انتصر على راشد الغنوشي بعدما قطع أمامه جميع الطرق المؤدية إلى استعادة المبادرة السياسية وأهمها اللعب على وتر الفصل 97 من الدستور لسحب الثقة من حكومة تصريف الأعمال التي يقودها يوسف الشاهد ومن ثمة تكليف من تراه صالحا بدل الفخفاخ بتشكيل الحكومة، وهو ما لم يحصل.
إن التمعّن في تركيبة الحكومة التي مُنحت فيها للنهضة ست حقائب وزارية، وهي وزارة النقل للطفي زيتون ووزارة الدولة المكلفة بالشؤون المحلية لأنور معروف ووزارة الفلاحة لأسامة الخريجي ووزارة التجهيز لمنصف السليتي ووزراة الصحة لعبداللطيف المكي ووزارة التعليم لخليل العميري ووزارة الشباب والرياضة لأحمد قعلول، يؤكّد أن راشد الغنوشي لم يفتكّ المبادرة السياسية من قيس سعيّد بقدر ما افتكها من خصومه داخل حزبه المتأهب لمرحلة جديدة.
تعدّدت التسميات التي التصقت بشكل حكومة الفخفاخ التي نزعت جبّة “التكنوقراط”، بين من يسميها “حكومة إنقاذ” وآخر يطلق عليها عنوان “حكومة مصلحة وطنية”، لكنها حكومة سياسية بامتياز يشارك فيها كبار قادة الأحزاب، كما أنها، وهو ما غفل عنه الكثيرون، “حكومة وحدة نهضوية” ليس فقط لأن اللون الغالب عليها هو الأزرق (رمز حركة النهضة)، بل لأنها تبعث بإشارات هامة تفيد بأنها ستكون أشبه بقشة نجاة وحبل خلاص يجنّبان النهضة التفتت والانشقاقات. وهذه لعبة أتقنها الغنوشي الذي لم يكن يهمه أمر الحكومة بقدر ما كان يضع في ذهنه حسابات خاصة به هدفها الأساس مواصلة قيادة النهضة بعدما كادت الأمور تفلت من بين يديه.
ستصوت النهضة وفق كل بياناتها المتواترة سواء الصادرة عن مجلس الشورى أو عن المكتب التنفيذي لفائدة حكومة الفخفاخ، فلا شيء يمنعها من ذلك الآن، بعدما وضعت كلا من حكومتي الجملي والفخفاخ تحت المجهر المخبري لتخوض بروفا حقيقية لمؤتمرها الحادي عشر الذي كان من المنتظر أن يتم عقده في شهر مايو القادم.
استغرب أقرب المقربين من الغنوشي في 11 يناير الماضي من برودة دمه وهو يعلن عن عدم نيل حكومة الجملي ثقة البرلمان بعدما أظهر للجميع في ذلك اليوم أنه متحمس لمرورها مهما كلفه الأمر، لكن ما ثبت بعد ذلك أن رئيس حركة النهضة كان منذ البداية يعلم أن الجملي صفحة يجب أن تطوى ليس لعجزه عن تأمين مستقبلها بل لدفعه القصدي إلى إسقاطها لتصفية حسابات داخلية تخص النهضة وحدها ولا تخص إدارة شؤون البلاد، خاصة أن الجملي كان محسوبا على التيار المناوئ له والراغب في افتكاك القيادة منه.
رمى الغنوشي صنارته ليعيد ترتيب الأوراق داخل النهضة بترويض عبداللطيف المكي ولطفي زيتون
بعيدا عن الخوض كثيرا في أشواط مفاوضات كانت شاقة ومتقلّبة، كان الرئيس قيس سعيّد قد حسم أمره قبل تكليف الفخفاخ بتشكيل الحكومة بالرهان على شخصية منجي مرزوق المحسوب على النهضة، لكن قراره هذا عُدّل في آخر اللحظات بعدما تشبث الغنوشي بمعارضته للقرار لإدراكه أن مرزوق هو أحد أهم أوراق خصومه داخل النهضة أو ما يعرف بالصقور، فقرر الرئيس تغيير خطته ومنح الثقة للفخفاخ.
بعد ذلك عرفت المفاوضات تقلبات كثيرة، ليس فقط بين الأحزاب المعنية بالمشاركة فيها بل داخل الجسم النهضوي أيضا، حيث دفعت مناورات الغنوشي في النهاية إلى الانقضاض على معارضيه وتصفيتهم واحدا تلو آخر، وهو ما أخفتَ أصواتهم طيلة 20 يوما تقريبا من كر وفر في مفاوضات تشكيل حكومة الفخفاخ. رمى الغنوشي صنّارته فلم يكن صيده عقيما، لقد تمكّن من إعادة ترتيب الأوراق بإحباطه تحرّك أي تيار سينقلب عليه، وقد تجلّى ذلك من خلال نجاحه في ترويض عبداللطيف المكي -وهو ألد منتقديه داخل الحركة بل إنه الساعي لقيادة النهضة في فترة ما بعد الغنوشي- بمنحه حقيبة وزارة الصحة.
لم يكتف رئيس النهضة بذلك بل إنه أعاد إلى حاشيته لطفي زيتون، الذي كان مقربا منه ثم تمرّد عليه ووجه له من الانتقادات ما لم يوجهه أحد قبله، بمنحه حقيبة وزارة النقل وهو ما سيؤهله لإغلاق باب كان ينتظر منه أن ينهي مسيرة الغنوشي كآمر وناه وحيد داخل الحركة. لقد كان ترويض لطفي زيتون، الذي كان ميالا إلى مقاربات الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى حد أن الجميع اقتنع بأن الرجل سينضم إلى حزب تقدمي حداثي، بمثابة الأعجوبة والصفقة الهامة التي يبرمها الغنوشي، لكن لماذا يراهن الغنوشي على زيتون بكل هذه الحماسة.
قبل الحديث عن دواعي لعب ورقة زيتون، يجدر التأكيد على أن مصادر مقرّبة من حركة النهضة أكدّت لـ”العرب” أن الحركة تتجه إلى تأجيل مؤتمرها الحادي عشر المزمع عقده في مايو سنتين إضافيتين. وأكّد هذه المعطيات القيادي عبدالحميد الجلاصي المعروف بمعارضته للغنوشي في تصريحات إعلامية قال فيها “الحركة لم تنطلق بعد في التحضير للمؤتمر والمفروض أن تكون قد عقدت دورة لمجلس الشورى منذ بداية ديسمبر الماضي لطرح هذا الموضوع والانطلاق في الأشغال وفرز أعضاء اللجنتين، لجنة المضمون ولجنة الإعداد المادي، ولكن ذلك تأخر بالنظر إلى ما تشهده الساحة السياسية من حراك كبير”.
وأكّد الجلاصي أن النهضة تتجه نحو خيار التأجيل حيث من المفترض أن يتم التحضير للمؤتمر منذ أكثر من سنة وقد طالب الكثير من أعضاء الشورى في جلسات علنية بتخصيص جلسات للوضع الداخلي وتفعيل الإعداد للمؤتمر وانطلاق أشغاله.
في ضوء كل هذه التطورات تكمن أهمية لطفي زيتون، فهذا الأخير كان المهندس رقم واحد للمؤتمر العاشر للحركة في مايو 2016، عبر ما يسميه النهضويون نجاح زيتون في عسكرة المؤتمر لإبعاد كل من لا يتفق مع رئيس الحركة في التصورات والرؤى وخاصة بشأن اللوائح التي طرحها شقه آنذاك وهو ما مكّن من تجديد الثقة في الغنوشي كرئيس وكذلك تغيير القوانين الداخلية للنهضة بما يخدم مصلحة الغنوشي بعدما أصبحت قرارات المكتب التنفيذي الذي يختار أعضاءه رئيس الحركة أكثر قوة من قرارات مجلس الشورى المنتخب خاصة في ما يتعلق بالتوجّهات السياسية.
يعرف راشد الغنوشي بمقتضى التعديلات التي أجريت على القانون الداخلي للنهضة عام 2016 أنه لم يعد بإمكانه ترؤس الحركة مستقبلا وأنه يقضي آخر ولاية له، ولذلك هو الآن يسعى لإطالة الرحلة بخصومه لسنتين إضافيتين بهدف البحث عن خليفة له يكون من دوائره وذلك بالتعويل على أهم أذرعه لطفي زيتون وكذلك صهره رفيق عبدالسلام.
في كل هذا يطرح السؤال، لماذا لم يقدر المعارضون على قلب الطاولة على الغنوشي ولا على مغادرة النهضة وتكوين حزب جديد؟ الإجابة عن هذا الاستفسار لا تكون فقط بالاحتكام إلى ما يعتبره البعض يدخل في خانة الولاء للغنوشي بقدر ما هو مرتبط أيضا بأسباب أخرى تتعلق بقصة تمويل الحزب الإسلامي.
يخاف المعارضون للغنوشي، رغم إفصاحهم المتكرر عن رفضهم لسطوته، على الحزب من الضياع بعده، فهم يدركون أن الغنوشي ليس النهضة، كما أن النهضة ليست الغنوشي، فالرجل هو أشبه بحزب داخل الحزب وهو الذي يمتلك وحده مفاتيح خزنة الدعم المالي المشفّرة.
أكثر ما يخيف صقور النهضة الآن، هو ألاّ يجدوا برحيل الغنوشي تمويلات مادية كبرى يتلقاها رئيس الحركة بنفسه من تركيا أو قطر أو بقية الجهات الداعمة للإسلام السياسي، خاصة أنه أبعدهم عن هذه الحلقة وجعلهم غير قادرين على حل شفرتها، ففي كل الرحلات التي يقوم بها الغنوشي لمقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو قيادات من قطر لا يصطحب معه إلا أقرب المقربين منه كصهره رفيق عبدالسلام مثلا. ولا يشهد تاريخ ما بعد الثورة في تونس أن رئيس الحركة قد كان مرفوقا في أي من زياراته الكثيرة إلى هذه البلدان بعبدالحميد الجلاصي أو محمد بن سالم أو عبداللطيف المكي أو غيرهم من المعارضين وذلك في إطار إستراتيجية مدروسة تجعله دائما صاحب الكلمة الأولى في الحركة.