الجماعات المسلحة في الميزان الأميركي

كنت ضيفا على برنامج غرفة الأخبار في قناة سكاي نيوز عربية، الأربعاء الماضي، ودار ملف الحلقة حول تناقضات الولايات المتحدة في التعامل مع الجماعات المسلحة والميليشيات، حيث تشتبك معها وتهادنها وتنسق معها أحيانا. وهي قضية لم تعد تثير حيرة المراقبين، فالازدواجية سمة في توجهات وتصرفات العديد من القوى الإقليمية والدولية، بحجة الدفاع عن المصالح أو التعامل مع الواقع عمليا.
انتهت الحلقة التي قدمتها باقتدار الإعلامية شانتال صليبا، لكن موضوعها لا يزال عالقا في ذهني، حيث فتح النقاش مع ضيف فلسطيني وآخر أميركي نقاطا مهمة تستحق الاستفاضة فيها، لأن مناشدات الولايات المتحدة حركة حماس القبول بصفقة الرئيس جو بايدن التي حواها قرار مجلس الأمن الدولي، توحي بأن واشنطن لم تتخلص بعد من علاقتها بجماعات إسلامية من مشارب مختلفة.
كما أنها تبدو مستعدة لعقد صفقات معها أو غيرها من خارج الإسلاميين، ما يعيد التذكير بعلاقاتها بجماعة مثل الحوثي في اليمن التي رفعتها من التصنيف الإرهابي ثم أعادتها إليه، وحركة طالبان في أفغانستان التي قاتلتها ثم هادنتها، وغيرهما من الفصائل والحركات والميليشيات التي نسجت معها علاقات علنية وأخرى خفية.
◄ عمليتا المرونة والخشونة تخضعان لحسابات أميركية دقيقة تجعلها تعترف بأهمية الميليشيات أو ضعفها، فقد تستطيع إحداها قلب الطاولة في الشرق الأوسط إذا انتابتها لحظة غرور
وحاولت دوائر غربية تقسيم الإسلاميين إلى فسطاطين، أحدهما أُطلق عليه المعتدلون، والثاني وُضع في مربع المتطرفين، لتبرير الانفتاح على الأول ومحاربة الآخر، ثم اُعترف بأن الفروق بينهما طفيفة، وكلاهما على صلة وثيقة بالثاني في أوقات كثيرة، الأمر الذي جعل المعادلة تبدو مختلة في يد الولايات المتحدة، فتارة تقوم بتليين مواقفها وأخرى تظهر تشددا نوعيا، وهو ما عكسته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصدر حركة حماس الإسلامية المشهد العسكري والسياسي.
نعتت الإدارة الأميركية حماس بأوصاف سلبية وأيدت ما أسمته “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” واجتثاث الحركة ونفي قادتها من القطاع، وعدم وجود أي دور لها في اليوم التالي لوقف الحرب، مع ذلك لم تقطع واشنطن علاقتها بحماس، حيث تلعب دورا مهما في عملية الوساطة غير المباشرة بين إسرائيل والحركة، بالتعاون مع كل من مصر وقطر، أي أنها تتعامل مع حماس للتوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار، مع إشارات لا تنكر أن الحركة رقم رئيسي، ربما الأهم، في الداخل الفلسطيني.
ناقش برنامج سكاي نيوز عربية قضايا عديدة تفرعت من رحم التناقضات الأميركية في التعامل مع الجماعات المسلحة بتنويعاتها في المنطقة، وبدت مبررات الواقعية الأميركية لوقف إطلاق النار غير منطقية، فواشنطن سوف تكون مضطرة إلى الحوار مع الكثير من الميليشيات المنتشرة في المنطقة وتلعب دورا مؤثرا في حروبها وتستطيع تخريب أي عملية سياسية لا تحقق أهدافها، بدءا من ليبيا وحتى الصومال، مرورا باليمن والعراق وسوريا ولبنان والسودان.
◄ الازدواجية سمة في توجهات وتصرفات العديد من القوى الإقليمية والدولية، بحجة الدفاع عن المصالح أو التعامل مع الواقع عمليا
في كل هذه الدول يتصارع خليط من القوى المسلحة والمرتزقة والميليشيات المتباينة لحسابهم أو يمارسون دورهم في الحرب الجديدة بالوكالة التي ذاع صيتها بين الدول.
استخدمت الولايات المتحدة، ولا تزال، هؤلاء في حروب عدة، لكنها لا تجرؤ على إعلان ذلك رسميا، وهي مثل دول كثيرة تقف عسكريا وسياسيا إلى جوار طرف في الحكم وآخر في المعارضة بحجة الحفاظ على المصالح، ويحسب لواشنطن أنها قدمت إسهامات سياسية في هذه المسألة علنا، بذريعة حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات ودعم المعارضة في القيام بدورها في مواجهة بعض الأنظمة الحاكمة، وعندما تتناقض مع مصالحها تسقط كل الحقوق وجميع الحريات.
لا ضير في أن تتعامل الولايات المتحدة أو غيرها مع الجماعات المسلحة، لكن عليها أن تحدد موقفها إذا ما كانت الميليشيات يمكن الاعتراف بدورها في التفاعلات الإقليمية أم نبذها ومحاربتها، وهي إشكالية مرت عليها سريعا الإعلامية شانتال صليبا في سكاي نيوز، وتستحق هذه الزاوية وحدها تسليط الضوء عليها، لأنها إشكالية محيرة، إذ يتم الاعتراف بالكثير من الجماعات ومحاربة أخرى، فالوزن النسبي وطبيعة الدور والقدرة على التأثير في التفاعل من المعطيات المركزية التي تحدد قيمة كل جماعة، يُضاف إليها عنصر المصلحة الذي تحققه أو الضرر الذي تُوقعه ببعض القوى.
تقع التصنيفات الأميركية للجماعات المسلحة ضمن معادلة جعلت واشنطن تغض الطرف عن حماس منذ سنوات، ثم تدخل معها في حوارات غير مباشرة، وتنقلب عليها بعد عملية طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، ودفعت إلى ذكرها في مشروعها لمجلس الأمن مجردة (بدون إرهابية ومتطرفة)، ما يعني عدم استبعاد التعامل معها في المستقبل كنوع من الواقعية والانتهازية والبراغماتية السياسية.
◄ دوائر غربية حاولت تقسيم الإسلاميين إلى فسطاطين، أحدهما أُطلق عليه المعتدلون، والثاني وُضع في مربع المتطرفين، لتبرير الانفتاح على الأول ومحاربة الآخر
وضع الجماعات المسلحة بتصنيفاتها ومشاربها في الميزان الأميركي قد يكشف تضاربا في آليات التعامل معها، أو يمهد للمزيد من الاعتراف بمشروعيتها، حيث باتت ظاهرة لا تخطئها العين في حروب ونزاعات وصراعات متعددة، وتحولت إلى أداة لحماية بعض الحكومات المحلية، ووسيلة لمد النفوذ لقوى إقليمية ودولية.
وإذا كانت حماس تقدم نفسها على أنها حركة مقاومة ضد إسرائيل، فهذا مرفوض أميركيا، أما إذا كانت جماعة إسلامية لها مشروعها الخاص فأهلا وسهلا بها، ففي الأولى تمثل عبئا لم تعد واشنطن قادرة على تحمله بعد طوفان الأقصى، بينما في الثانية أداة تحقق بها الولايات المتحدة بعضا من أهدافها، يمكن أن تضفي عليها بريقا كلما أطفئ آخر، ولن يتم التخلص من ورقة حماس، أميركيا أو إسرائيليا، لأن ذلك يفتح الطريق لإنهاء الانقسام والحديث عن مستقبل واعد لدولة فلسطينية.
يصعب وضع الحركات الإسلامية كلها في سلة أميركية واحدة، فقد أشرفت واشنطن منذ نحو عامين على مفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، وهي تعلم علاقته الوثيقة بإيران التي تخوض حربا سياسية معها، ترتفع وتخفت ولا تتوقف، ما يشير إلى أن الموقف المتشدد من الميليشيات يخضع لموازين تتحكم فيها طبيعة المصالح والتوقيتات الأميركية وموقف العنصر الإسرائيلي فيها، فالليونة السابقة التي ظهرت مع حزب الله وحماس والحوثيين وغيرهم، مردها أنها تحقق أهدافها في لحظة معينة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الخشونة.
تخضع عمليتا المرونة والخشونة لحسابات أميركية دقيقة تجعلها تعترف بأهمية الميليشيات أو ضعفها، فقد تستطيع إحداها قلب الطاولة في الشرق الأوسط إذا انتابتها لحظة غرور، فما يملكه حزب الله اللبناني من وفرة في المعدات العسكرية يمكّنه من دخول حرب لا أحد يضمن السيطرة عليها، كما أن الحوثيين قد يضاعفون ضرباتهم فيزداد التوتر في جنوب البحر الأحمر، ولذلك على الولايات المتحدة أن تحدد موقفها بوضوح من التعايش والصرامة مع الجماعات المسلحة.